فصل: باب الْجَرِيدِ عَلَى الْقَبْرِ

صباحاً 8 :55
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
28
الأحد
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب الصَّلَاةِ عَلَى الشَّهِيدِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الصلاة على الشهداء‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ أراد باب حكم الصلاة على الشهيد، ولذلك أورد فيه حديث جابر الدال على نفيها، وحديث عقبة الدال على إثباتها قال‏:‏ ويحتمل أن يكون المراد باب مشروعية الصلاة على الشهيد في قبره لا قبل دفنه عملا بظاهر الحديثين، قال‏:‏ والمراد بالشهيد قتيل المعركة في حرب الكفار انتهى‏.‏

وكذا المراد بقوله بعد ‏"‏ من لم ير غسل الشهيد ‏"‏ ولا فرق في ذلك بين المرأة والرجل صغيرا أو كبيرا حرا أو عبدا صالحا أو غير صالح، وخرج بقوله ‏"‏ المعركة ‏"‏ من جرح في القتال وعاش بعد ذلك حياة مستقرة، وخرج بحرب الكفار من مات بقتال المسلمين كأهل البغي، وخرج بجميع ذلك من سمي شهيدا بسبب غير السبب المذكور، وإنما يقال له شهيد بمعنى ثواب الآخرة، وهذا كله على الصحيح من مذاهب العلماء‏.‏

والخلاف في الصلاة على قتيل معركة الكفار مشهور، قال الترمذي‏:‏ قال بعضهم يصلى على الشهيد وهو قول الكوفيين وإسحاق‏.‏

وقال بعضهم لا يصلى عليه وهو قول المدنيين والشافعي وأحمد‏.‏

وقال الشافعي في ‏"‏ الأم ‏"‏ جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد، وما روي أنه صلى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح‏.‏

وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحي على نفسه‏.‏

قال‏:‏ وأما حديث عقبة بن عامر فقد وقع في نفس الحديث أن ذلك كان بعد ثمان سنين، يعني والمخالف يقول لا يصلى على القبر إذا طالت المدة‏.‏

قال وكأنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم واستغفر لهم حين علم قرب أجله مودعا لهم بذلك، ولا يدل ذلك على نسخ الحكم الثابت انتهى‏.‏

وما أشار إليه من المدة والتوديع قد أخرجه البخاري أيضا كما سننبه عليه بعد هذا‏.‏

ثم إن الخلاف في ذلك في منع الصلاة عليهم على الأصح عند الشافعية، وفي وجه أن الخلاف في الاستحباب وهو المنقول عن الحنابلة، قال الماوردي عن أحمد‏:‏ الصلاة على الشهيد أجود، وأن لم يصلوا عليه أجزأ‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر‏)‏ كذا يقول الليث عن ابن شهاب، قال النسائي‏:‏ لا أعلم أحدا من ثقات أصحاب ابن شهاب تابع الليث على ذلك‏.‏

ثم ساقه من طريق عبد الله بن المبارك عن معمر عن ابن شهاب عن عبد الله بن ثعلبة فذكر الحديث مختصرا، وكذا أخرجه أحمد من طريق محمد بن إسحاق، والطبراني من طريق عبد الرحمن بن إسحاق وعمرو بن الحارث كلهم عن ابن شهاب عن عبد الله بن ثعلبة، وعبد الله له رؤية فحديثه من حيث السماع مرسل، وقد رواه عبد الرزاق عن معمر فزاد فيه جابرا، وهو مما يقوي اختيار البخاري، فإن ابن شهاب صاحب حديث فيحمل على أن الحديث عنده عن شيخين، ولا سيما أن في رواية عبد الرحمن بن كعب ما ليس في رواية عبد الله بن ثعلبة‏.‏

وعلي بن شهاب فيه اختلاف آخر رواه أسامة بن زيد الليثي عنه عن أنس أخرجه أبو داود والترمذي، وأسامة سيء الحفظ، وقد حكى الترمذي في ‏"‏ العلل ‏"‏ عن البخاري أن أسامة غلط في إسناده‏.‏

وأخرجه البيهقي من طريق عبد الرحمن بن عبد العزيز الأنصاري عن ابن شهاب فقال‏:‏ ‏"‏ عن عبد الرحمن بن كعب عن أبيه ‏"‏ وابن عبد العزيز ضعيف، وقد أخطأ في قوله ‏"‏ عن أبيه‏"‏‏.‏

وقد ذكر البخاري فيه اختلافا آخر كما سيأتي بعد بابين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم يقول أيهما‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ أيهم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولم يصل عليهم‏)‏ هو مضبوط في روايتنا بفتح اللام، وهو اللائق بقوله بعد ذلك ‏"‏ ولم يغسلوا ‏"‏ وسيأتي بعد بابين من وجه آخر عن الليث بلفظ ‏"‏ ولم يصل عليهم ولم يغسلهم ‏"‏ وهذه بكسر اللام والمعني ولم يفعل ذلك بنفسه ولا بأمره‏.‏

وفي حديث جابر هذا مباحث كثيرة يأتي استيفاؤها في غزوة أحد من المغازي إن شاء الله تعالى‏.‏

وفيه جواز تكفين الرجلين في ثوب واحد لأجل الضرورة إما بجمعهما فيه وإما بقطعه بينهما، وعلى جواز دفن اثنين في لحد، وعلى استحباب تقديم أفضلهما لداخل اللحد، وعلى أن شهيد المعركة لا يغسل، وقد ترجم المصنف لجميع ذلك‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في رواية أسامة المذكورة ‏"‏ لم يصل عليهم ‏"‏ كما في حديث جابر‏.‏

وفي رواية عنه عند الشافعي والحاكم ‏"‏ ولم يصل على أحد غيره ‏"‏ يعني حمزة‏.‏

وقال الدارقطني‏:‏ هذه اللفظة غير محفوظة - يعني عن أسامة - والصواب الرواية الموافقة لحديث الليث والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ أَوْ مَفَاتِيحَ الْأَرْضِ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي الخير‏)‏ هو اليزني، والإسناد كله بصريون، وهذا معدود من أصح الأسانيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صلاته‏)‏ بالنصب أي مثل صلاته‏.‏

زاد في غزوة أحد من طريق حيوة بن شريح عن يزيد ‏"‏ بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات ‏"‏ وزاد فيه ‏"‏ فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وسيأتي الكلام على الزيادة هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

وكانت أحد في شوال سنة ثلاث، ومات صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، فعلى هذا ففي قوله ‏"‏ بعد ثمان سنين ‏"‏ تجوز على طريق جبر الكسر، إلا فهي سبع سنين ودون النصف‏.‏

واستدل به على مشروعية الصلاة على الشهداء وقد تقدم جواب الشافعي عنه بما لا مزيد عليه‏.‏

وقال الطحاوي‏:‏ معنى صلاته صلى الله عليه وسلم عليهم لا يخلو من ثلاثة معان‏:‏ إما أن يكون ناسخا لما تقدم من ترك الصلاة عليهم، أو يكون من سنتهم أن لا يصلي عليهم إلا بعد هذه المدة المذكورة، أو تكون الصلاة عليهم جائزة بخلاف غيرهم فإنها واجبة‏.‏

وأيها كان فقد ثبت بصلاته عليهم الصلاة على الشهداء‏.‏

ثم كأن الكلام بين المختلفين في عصرنا إنما هو في الصلاة عليهم قبل دفنهم، وإذا ثبتت الصلاة عليهم بعد الدفن كانت قبل الدفن أولى انتهى‏.‏

وغالب ما ذكره بصدد المنع - لا سيما في دعوى الحصر - فإن صلاته عليهم تحتمل أمورا أخر‏:‏ منها أن تكون من خصائصه، ومنها أن تكون بمعنى الدعاء كما تقدم‏.‏

ثم هي واقعة عين لا عموم فيها، فكيف ينتهض الاحتجاج بها لدفع حكم قد تقرر‏؟‏ ولم يقل أحد من العلماء بالاحتمال الثاني الذي ذكره والله أعلم‏.‏

قال النووي‏:‏ المراد بالصلاة هنا الدعاء، وأما كونه مثل الذي على الميت فمعناه أنه دعا لهم بمثل الدعاء الذي كانت عادته أن يدعو به للموتى‏.‏

و قوله‏:‏ ‏(‏إني فرط لكم‏)‏ أي سابقكم، و قوله‏:‏ ‏(‏وإني والله‏)‏ فيه الحلف لتأكيد الخبر وتعظيمه، و قوله‏:‏ ‏(‏لأنظر إلى حوضي‏)‏ هو على ظاهره، وكأنه كشف له عنه في تلك الحالة‏.‏

وسيأتي الكلام على الحوض مستوفى في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى، وكذا على المنافسة في الدنيا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما أخاف عليكم أن تشركوا‏)‏ أي على مجموعكم، لأن ذلك قد وقع من البعض أعاذنا الله تعالى‏.‏

وفي هذا الحديث معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك أورده المصنف في ‏"‏ علامات النبوة ‏"‏ كما سيأتي بقية الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب دَفْنِ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب دفن الرجلين والثلاثة في قبر‏)‏ أورد فيه حديث جابر المذكور مختصرا بلفظ ‏"‏ كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ‏"‏ قال ابن رشيد‏:‏ جرى المصنف على عادته إما بالإشارة إلى ما ليس على شرطه، وإما بالاكتفاء بالقياس‏.‏

وقد وقع في رواية عبد الرزاق يعني المشار إليها قبل بلفظ ‏"‏ وكان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر الواحد ‏"‏ انتهى‏.‏

وورد ذكر الثلاثة في هذه القصة عن أنس أيضا عند الترمذي وغيره، وروى أصحاب السنن عن هشام بن عامر الأنصاري قال‏:‏ جاءت الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقالوا‏:‏ أصابنا قرح وجهد، قال‏:‏ احفروا وأوسعوا‏.‏

واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر ‏"‏ صححه الترمذي، والظاهر أن المصنف أشار إلى هذا الحديث‏.‏

وأما القياس ففيه نظر، لأنه لو أراده لم يقتصر عل الثلاثة بل كان يقول مثلا دفن الرجلين فأكثر، ويؤخذ من هذا جواز دفن المرأتين في قبر، وأما دفن الرجل مع المرأة فروى عبد الرزاق بإسناد حسن عن واثلة بن الأسقع ‏"‏ أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد فيقدم الرجل ويجعل المرأة وراءه‏"‏، وكأنه كان يجعل بينهما حائلا من تراب ولا سيما إن كانا أجنبيين‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب مَنْ لَمْ يَرَ غَسْلَ الشُّهَدَاءِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من لم ير غسل الشهداء‏)‏ في نسخة ‏"‏ الشهيد ‏"‏ بالإفراد‏.‏

أشار بذلك إلى ما روي عن سعيد بن المشيب أنه قال‏:‏ يغسل الشهيد، لأن كل ميت يجنب فيجب غسله حكاه ابن المنذر، قال‏:‏ وبه قال الحسن البصري‏.‏

ورواه ابن أبي شيبة عنهما أي عن سعيد والحسن، وحكي عن ابن سريج من الشافعية وعن غيره، وهو من الشذوذ‏.‏

وقد وقع عند أحمد من وجه آخر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قتلى أحد ‏"‏ لا تغسلوهم فإن كل جرح - أو كل دم - يفوح مسكا يوم القيامة، ولم يصل عليهم ‏"‏ فبين الحكمة في ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرٍ قال قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادْفِنُوهُمْ فِي دِمَائِهِمْ يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ

الشرح‏:‏

حديث جابر أورده المصنف قبل مختصرا بلفظ ‏"‏ ولم يغسلهم ‏"‏ واستدل بعمومه على أن الشهيد لا يغسل حتى ولا الجنب والحائض، وهو الأصح عند الشافعية، وقيل يغسل للجنابة لا بنية غسل الميت، لما روي في قصة حنظلة بن الراهب أن الملائكة غسلته يوم أحد لما استشهد وهو جنب، وقصته مشهورة رواها ابن إسحق وغيره، وروى الطبراني وغيره من حديث ابن عباس بإسناد لا بأس به عنه قال ‏"‏ أصيب حمزة بن عبد المطلب وحنظلة بن الراهب وهما جنب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ رأيت الملائكة تغسلهما ‏"‏ غريب في ذكـر حمزة، وأجيب بأنه لو كان واجبا ما اكتفي فيه بغسل الملائكة، فدل على سقوطه عمن يتولى أمر الشهيد‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب مَنْ يُقَدَّمُ فِي اللَّحْدِ

وَسُمِّيَ اللَّحْدَ لِأَنَّهُ فِي نَاحِيَةٍ وَكُلُّ جَائِرٍ مُلْحِدٌ مُلْتَحَدًا مَعْدِلًا وَلَوْ كَانَ مُسْتَقِيمًا كَانَ ضَرِيحًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من يقدم في اللحد‏)‏ أي إذا كانوا أكثر من واحد، وقد دل حديث الباب على تقديم من كان أكثر قرآنا من صاحبه، وهذا نظير تقديمه في الإمامة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وسمي اللحد لأنه في ناحية‏)‏ قال أهل اللغة‏:‏ أصل الإلحاد الميل والعدول عن الشيء، وقيل للمائل عن الدين ملحد، وسمي اللحد لأنه شق يعمل في جانب القبر فيميل عن وسط القبر إلى جانبه بحيث يسع الميت فيوضع فيه ويطبق عليه اللبن‏.‏

وأما قول المصنف بعد ‏"‏ ولو كان مستقيما لكان ضريحا ‏"‏ فلأن الضريح شق يشق في الأرض على الاستواء ويدفن فيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ملتحدا‏:‏ معدلا‏)‏ هو قول أبي عبيدة بن المثنى في ‏"‏ كتاب المجاز‏"‏‏.‏

قال ‏"‏قوله ملتحدا أي معدلا ‏"‏ وقال الطبري معناه ولن تجد من دونه معدلا تعدل إليه عن الله، لأن قدرة الله محيطة بجميع خلقه‏.‏

قال والملتحد مفتعل من اللحد، يقال منه لحدت إلى كذا إذا ملت إليه انتهى‏.‏

ويقال‏:‏ لحدته وألحدته، قال الفراء‏:‏ الرباعي أجود‏.‏

وقال غيره‏:‏ الثلاثي أكثر‏.‏

ويؤيده حديث عائشة في قصة دفن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فأرسلوا إلى الشقاق واللاحد ‏"‏ الحديث أخرجه ابن ماجه، ثم ساق المصنف حديث جابر من طريق ابن المبارك عن الليث متصلا، وعن الأوزاعي منقطعا لأن ابن شهاب لم يسمع من جابر‏.‏

زاد ابن سعد في الطبقات عن الوليد بن مسلم ‏"‏ حدثني الأوزاعي بهذا الإسناد قال‏:‏ زملوهم بجراحهم فإني أنا الشهيد عليهم، ما من مسلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة يسيل دما ‏"‏ الحديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ وَأَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِقَتْلَى أُحُدٍ أَيُّ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى رَجُلٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ قَبْلَ صَاحِبِهِ وَقَالَ جَابِرٌ فَكُفِّنَ أَبِي وَعَمِّي فِي نَمِرَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

الشرح‏:‏

قوله في رواية الأوزاعي ‏(‏فكفن أبي وعمي في نمرة‏)‏ هي بفتح النون وكسر الميم‏:‏ بردة من صوف أو غيره مخططة‏.‏

وقال الفراء‏:‏ هي دراعة فيها لونان سواد وبياض، ويقال للسحابة إذا كانت كذلك نمرة، وذكر الواقدي في المغازي وابن سعد أنهما كفنا في نمرتين، فإن ثبت حمل على أن النمرة الواحدة شقت بينهما نصفين، وسيأتي مزيد لذلك بعد بابين‏.‏

والرجل الذي كفن معه في النمرة كأنه هو الذي دفن معه كما سيأتي الكلام على تسميته بعد باب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال سليمان بن كثير إلخ‏)‏ هو موصول في الزهريات للذهلي‏.‏

وفي رواية سليمان المذكور إبهام شيخ الزهري وقد تقدم البحث فيه قبل بابين، قال الدارقطني في ‏"‏ التتبع ‏"‏‏:‏ اضطرب فيه الزهري، وأجيب بمنع الاضطراب لأن الحاصل من الاختلاف فيه على الثقات أن الزهري حمله عن شيخين، وأما إبهام سليمان لشيخ الزهري وحذف الأوزاعي له فلا يؤثر ذلك في رواية من سماه، لأن الحجة لمن ضبط وزاد إذا كان ثقة لا سيما إذا كان حافظا، وأما رواية أسامة وابن عبد العزيز فلا تقدح في الرواية الصحيحة لضعفهما، وقد بينا أن البخاري صرح بغلط أسامة فيه، وسيأتي الكلام على بقية فوائد حيث جابر في المغازي، وفيه فضيلة ظاهرة لقارئ القرآن، ويلحق به أهل الفقه والزهد وسائر وجوه الفضل‏.‏

*3*باب الْإِذْخِرِ وَالْحَشِيشِ فِي الْقَبْرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الإذخر والحشيش في القبر‏)‏ أورد فيه حديث ابن عباس في تحريم مكة، وفيه ‏"‏ فقال العباس إلا الإذخر لصاغتنا وقبورنا ‏"‏ وسيأتي الكلام على فوائده في كتاب الحج إن شاء الله تعالى‏.‏

وجوز ابن مالك في قوله ‏"‏ إلا الإذخر ‏"‏ الرفع والنصب، وترجم ابن المنذر على هذا الحديث طرح الإذخر في القبر وبسطه فيه، وأراد المصنف بذكر الحشيش التنبيه على إلحاقه بالإذخر وأن المراد باستعمال الإذخر البسط ونحوه لا التطيب، ومراده بالحشيش ما يجوز حشه من الحرم إذا لم يقيده في الترجمة بشيء‏.‏

وقد تقدم في ‏"‏ باب إذا لم يجد كفنا ‏"‏ في قصة مصعب بن عمير لما قصر كفنه أن يغطى رأسه وأن يجعل على رجليه من الإذخر، ولأحمد من طريق خباب أيضا أن حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة إذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه حتى مدت على رأسه وجعل على قدميه الإذخر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حَرَّمَ اللَّهُ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ فَقَالَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَّا الْإِذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا فَقَالَ إِلَّا الْإِذْخِرَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا وَقَالَ أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أبو هريرة إلخ‏)‏ هو طرف من حديث طويل فيه قصة أبي شاه وقد تقدم موصولا في كتاب العلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أبان بن صالح إلخ‏)‏ وصله ابن ماجه من طريقه وفيه ‏"‏ فقال العباس إلا الإذخر، فإنه للبيوت والقبور‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال مجاهد إلخ‏)‏ هو طرف من الحديث الأول، وسيأتي موصولا في كتاب الحج، وأورده لقوله فيه ‏"‏ لقينهم ‏"‏ بدل لقبورهم، والقين بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها نون هو الحداد، وكأنه أشار إلى ترجيح الرواية الأولى لموافقة رواية أبي هريرة وصفية، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الحج إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب هَلْ يُخْرَجُ الْمَيِّتُ مِنْ الْقَبْرِ وَاللَّحْدِ لِعِلَّةٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة‏)‏ أي لسبب، وأشار بذلك إلى الرد على من منع إخراج الميت من قبره مطلقا أو لسبب دون سبب، كمن خص الجواز بما لو دفن بغير غسل أو بغير صلاة، فإن في حديث جابر الأول دلالة على الجواز إذا كان في نبشه مصلحة تتعلق به من زيادة البركة له، وعليه يتنزل قوله في الترجمة ‏"‏ من القبر‏"‏، وفي حديث جابر الثاني دلالة على جواز الإخراج لأمر يتعلق بالحي لأنه لا ضرر على الميت في دفن ميت آخر معه، وقد بين ذلك جابر بقوله ‏"‏ فلم تطب نفسي ‏"‏ وعليه يتنزل قوله ‏"‏ واللحد ‏"‏ لأن والد جابر كان في لحد، وإنما أورد المصنف الترجمة بلفظ الاستفهام لأن قصة عبد الله بن أبي قابلة للتخصيص، وقصة والد جابر ليس فيها تصريح بالرفع، قاله الزين بن المنير، ثم أورد المصنف فيه حديث عمرو - وهو ابن دينار - عن جابر في قصة عبد الله بن أبي، وقد سبق ذكره في ‏"‏ باب الكفن في القميص ‏"‏ وزاد في هذه الطريق ‏"‏ وكان كسا عباسا قميصا ‏"‏ وفي رواية الكشميهني ‏"‏ قميصه ‏"‏ والعباس المذكور هو ابن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ وَكَانَ كَسَا عَبَّاسًا قَمِيصًا قَالَ سُفْيَانُ وَقَالَ أَبُو هَارُونَ يَحْيَى وَكَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَانِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلْبِسْ أَبِي قَمِيصَكَ الَّذِي يَلِي جِلْدَكَ قَالَ سُفْيَانُ فَيُرَوْنَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْبَسَ عَبْدَ اللَّهِ قَمِيصَهُ مُكَافَأَةً لِمَا صَنَعَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال سفيان‏:‏ وقال أبو هرون إلخ‏)‏ كذا وقع في رواية أبي ذر وغيرها، ووقع في كثير من الروايات ‏"‏ وقال أبو هريرة ‏"‏ وكذا في مستخرج أبي نعيم وهو تصحيف، وأبو هرون المذكور جزم المزي بأنه موسى بن أبي عيسى الحناط بمهملة ونون المدني، وقيل هو الغنوي واسمه إبراهيم بن العلاء من شيوخ البصرة، وكلاهما من أتباع التابعين، فالحديث معضل‏.‏

وقد أخرجه الحميدي في مسنده عن سفيان فسماه عيسى ولفظه ‏"‏ حدثنا عيسى بن أبي موسى ‏"‏ فهذا هو المعتمد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال سفيان‏:‏ فيرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس عبد الله قيمصه مكافأة لما صنع بالعباس‏)‏ هذا القدر متصل عند سفيان، وقد أخرجه البخاري في أواخر الجهاد في ‏"‏ باب كسوة الأسارى ‏"‏ عن عبد الله بن محمد عن سفيان بالسند المذكور قال ‏"‏ لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه ‏"‏ ويحتمل أن يكون قوله ‏"‏ فلذلك ‏"‏ من كلام سفيان أدرج في الخبر، بينته رواية علي بن عبد الله التي في هذا الباب، وسأستوفي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أَبِي مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَا أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا فَأَصْبَحْنَا فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِي قَبْرٍ ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الْآخَرِ فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا حسين المعلم عن عطاء‏)‏ هو ابن أبي رباح ‏(‏عن جابر‏)‏ هكذا أخرج البخاري هذا الحديث عن مسدد عن بشر بن المفضل عن حسين، ولم أره بعد التتبع الكثير في شيء من كتب الحديث بهذا الإسناد إلى جابر إلا في البخاري، وقد عز على الإسماعيلي مخرجه فأخرجه في مستخرجه من طريق البخاري، وأما أبو نعيم فأخرجه من طريق أبي الأشعث عن بشر بن المفضل فقال ‏"‏ عن سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن جابر ‏"‏ وقال بعده‏:‏ ليس أبو نضرة من شرط البخاري‏.‏

قال‏:‏ وروايته عن حسين عن عطاء عزيزة جدا‏.‏

قلت‏:‏ وطريق سعيد مشهورة عنه، أخرجها أبو داود وابن سعد والحاكم والطبراني من طريقه عن أبي نضرة عن جابر، واحتمل عندي أن يكون لبشر بن المفضل فيه شيخان، إلى أن رأيته في ‏"‏ المستدرك ‏"‏ للحاكم قد أخرجه عن أبي بكر بن إسحاق عن معاذ بن المثنى عن مسدد عن بشر كما رواه أبو الأشعث عن بشر، وكذا أخرجه في ‏"‏ الإكليل ‏"‏ بهذا الإسناد إلى جابر ولفظه لفظ البخاري سواء، فغلب علي الظن حينئذ أن في هذه الطريق وهما، لكن لم يتبين لي ممن هو، ولم أر من نبه على ذلك، وكأن البخاري استشعر بشيء من ذلك فعقب هذه الطريق بما أخرجه من طريق ابن أبي نجيح عن عطاء عن جابر مختصرا ليوضح أن له أصلا من طريق عطاء عن جابر‏.‏

والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما أراني‏)‏ بضم الهمزة بمعني الظن، وذكر الحاكم في ‏"‏ المستدرك ‏"‏ عن الواقدي أن سبب ظنه ذلك منام رآه أنه رأى مبشر بن عبد المنذر - وكان ممن استشهد ببدر - يقول له‏:‏ أنت قادم علينا في هذه الأيام، فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ هذه الشهادة‏.‏

وفي رواية أبي نضرة المذكورة عند ابن السكن عن جابر أن أباه قال له‏:‏ إني معرض نفسي للقتل‏.‏

الحديث‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ إنما قال ذلك بناء على ما كان عزم عليه، وإنما قال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة إلى ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض أصحابه سيقتل كما سيأتي واضحا في المغازي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأن علي دينا‏)‏ سيأتي مقداره في علامات النبوة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فاقض‏)‏ كذا في الأصل بحذف المفعول‏.‏

وفي رواية الحاكم ‏"‏ فاقضه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بأخواتك‏)‏ سيأتي الكلام على ذكر عدتهن ومن عرف اسمها منهن في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ودفن معه آخر‏)‏ هو عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام الأنصاري، وكان صديق والد جابر وزوج أخته هند بنت عمرو، وكأن جابرا سماه عمه تعظيما‏.‏

قال ابن إسحاق في المغازي ‏"‏ حدثني أبي عن رجال من بني سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين أصيب عبد الله بن عمرو وعمرو بن الجموح‏:‏ اجمعوا بينهما فإنهما كانا متصادقين في الدنيا ‏"‏ وفي ‏"‏ مغازي الواقدي ‏"‏ عن عائشة أنها رأت هند بنت عمرو تسوق بعيرا لها عليه زوجها عمرو بن الجموح وأخوها عبد الله بن عمرو بن حرام لتدفنهما بالمدينة، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برد القتلى إلى مضاجعهم‏.‏

وأما قول الدمياطي إن قوله ‏"‏ وعمي ‏"‏ وهم فليس بجيد، لأن له محملا سائغا، والتجوز في مثل هذا يقع كثيرا‏.‏

وحكى الكرماني عن غيره أن قوله ‏"‏ وعمي ‏"‏ تصحيف من ‏"‏ عمرو ‏"‏ وقد روى أحمد بإسناد حسن من حديث أبي قتادة قال ‏"‏ قتل عمرو بن الجموح وابن أخيه يوم أحد فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلا في قبر واحد ‏"‏ قال ابن عبد البر في التمهيد‏:‏ ليس هو ابن أخيه وإنما هو ابن عمه، وهو كما قال فلعله كان أسن منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فاستخرجته بعد ستة أشهر‏)‏ أي من يوم دفنه وهذا يخالف في الظاهر ما وقع في الموطأ عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه بلغه عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين كانا قد حفر السيل قبرهما، وكانا في قبر واحد، فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس، وكان بين أحد ويوم حفر عنهما ست وأربعون سنة، وقد جمع بينهما ابن عبد البر بتعدد القصة، وفيه نظر لأن الذي في حديث جابر أنه دفن أباه في قبر وحده بعد ستة أشهر وفي حديث الموطأ أنهما وجدا في قبر واحد بعد ست وأربعين سنة، فإما أن يكون المراد بكونهما في قبر واحد قرب المجاورة، أو أن السيل خرق أحد القبرين فصارا كقبر واحد، وقد ذكر ابن إسحاق القصة في المغازي فقال ‏"‏ حدثني أبي عن أشياخ من الأنصار قالوا‏:‏ لما ضرب معاوية عينه التي مرت على قبور الشهداء انفجرت العين عليهم فجئنا فأخرجناهما - يعني عمرا وعبد الله - وعليهما بردتان قد غطي بهما وجوههما وعلى أقدامهم شيء من نبات الأرض، فأخرجناهما يتثنيان تثنيا كأنهما دفنا بالأمس‏"‏‏.‏

وله شاهد بإسناد صحيح عند ابن سعد من طريق أبي الزبير عن جابر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإذا هو كيوم وضعته هنية غير أذنه‏)‏ وقال عياض في رواية أبي السكن والنسفي ‏"‏ غير هنية في أذنه ‏"‏ وهو الصواب بتقديم ‏"‏ غير ‏"‏ وزيادة ‏"‏ في ‏"‏ وفي الأول تغيير، قال ومعنى قوله ‏"‏ هنية ‏"‏ أي شيئا يسيرا، وهو بنون بعدها تحتانية مصغرا، وهو تصغير ‏"‏ هنة ‏"‏ أي شيء، فصغره لكونه أثرا يسيرا انتهى‏.‏

وقد قال الإسماعيلي عقب سياقه بلفظ الأكثر‏.‏

إنما هو ‏"‏ عند‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وكدا وقع في رواية أبي ذر عن الكشميهني، لكن يبقى في الكلام نقص، ويبينه ما في رواية ابن أبي خيثمة والطبراني من طريق غسان بن مضر عن أبي سلمة بلفظ ‏"‏ وهو كيوم دفنته، إلا هنية عند أذنه ‏"‏ وهو موافق من حيث المعني لرواية ابن السكن التي صوبها عياض‏.‏

وجمع أبو نعيم في روايته من طريق أبي الأشعث بين لفظ ‏"‏ غير ‏"‏ ولفظ ‏"‏ عند ‏"‏ فقال ‏"‏ غير هنية عند أذنه ‏"‏ ووقع في رواية الحاكـم المشار إليها ‏"‏ فإذا هو كيوم وضعته غير أذنه ‏"‏ سقط منها لفظ ‏"‏ هنية ‏"‏ وهو مستقيم المعنى‏.‏

وكذلك ذكره الحميدي في ‏"‏ الجمع ‏"‏ في أفراد البخاري، والمراد بالأذن بعضها‏.‏

وحكى ابن التين أنه في روايته بفتح الهاء وسكون التحتانية بعدها همزة ثم مثناة منصوبة ثم هاء الضمير، أي على حالته‏.‏

وقد أخرجه ابن السكن من طريق شعبة عن أبي مسلمة بلفظ ‏"‏ غير أن طرف أذن أحدهم تغير‏"‏، ولابن سعد من طريق أبي هلال عن أبي مسلمة ‏"‏ إلا قليلا من شحمة أذنه ‏"‏ ولأبي داود من طريق حماد بن زيد عن أبي مسلمة ‏"‏ إلا شعرات كن من لحيته مما يلي الأرض ‏"‏ ويجمع بين هذه الرواية وغيرها بأن المراد الشعرات التي تتصل بشحمة الأذن، وأفادت هذه الرواية سبب تغير ذلك دون غيره، ولا يعكر على ذلك ما رواه الطبراني بإسناد صحيح عن محمد بن المنكدر عن جابر ‏"‏ أن أباه قتل يوم أحد ثم مثلوا به فجدعوا أنفه وأذنيه ‏"‏ الحديث، وأصله في مسلم، لأنه محمول على أنهم قطعوا بعض أذنيه لا جميعهما والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دُفِنَ مَعَ أَبِي رَجُلٌ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَخْرَجْتُهُ فَجَعَلْتُهُ فِي قَبْرٍ عَلَى حِدَةٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ابن أبي نجيح عن عطاء‏)‏ كذا للأكثر، وحكى أبو علي الجياني أنه وقع عند أبي علي بن السكن ‏"‏ عن مجاهد ‏"‏ بدل ‏"‏ عطاء ‏"‏ قال‏:‏ والذي رواه غيره أصح‏.‏

قلت‏:‏ وكذا أخرجه ابن سعد والنسائي والإسماعيلي وآخرون كلهم من طريق سعيد بن عامر بالسند المذكور فيه وهو الصواب‏.‏

وفي قصة والد جابر من الفوائد‏:‏ الإرشاد إلى بر الأولاد بالآباء خصوصا بعد الوفاة، والاستعانة على ذلك بإخبارهم بمكانتهم من القلب‏.‏

وفيه قوة إيمان عبد الله المذكور لاستثنائه النبي صلى الله عليه وسلم ممن جعل ولده أعز عليه منهم‏.‏

وفيه كرامته بوقوع الأمر على ما ظن، وكرامته بكون الأرض لم تبل جسده مع لبثه فيها، والظاهر أن ذلك لمكان الشهادة‏.‏

وفيه فضيلة لجابر لعمله بوصية أبيه بعد موته في قضاء دينه كما سيأتي بيانه في مكانه‏.‏

*3*باب اللَّحْدِ وَالشَّقِّ فِي الْقَبْرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب اللحد والشق في القبر‏)‏ أورد فيه حديث جابر في قصة قتلى أحد وليس فيه للشق ذكر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ ثُمَّ يَقُولُ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ فَقَالَ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ

الشرح‏:‏

قال ابن رشيد‏:‏ قوله في حديث جابر ‏"‏ قدمه في اللحد ‏"‏ ظاهر في أن الميتين جميعا في اللحد، ويحتمل أن يكون المقدم في اللحد والذي يليه في الشق لمشقة الحفر في الجانب لمكان اثنين، وهذا يؤيد ما تقدم توجيهه أن المراد بقوله ‏"‏ فكفن أبي وعمي في نمرة واحدة ‏"‏ أي شقت بينهما، ويحتمل أن يكون ذكر الشق في الترجمة لينبه على أن اللحد أفضل منه، لأنه الذي وقع دفن الشهداء فيه مع ما كانوا فيه من الجهد والمشقة، فلولا مزيد فضيلة فيه ما عانوه‏.‏

وفي السنن لأبي داود وغيره من حديث ابن عباس مرفوعا ‏"‏ اللحد لنا والشق لغيرنا ‏"‏ وهو يؤيد فضيلة اللحد على الشق‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب إِذَا أَسْلَمَ الصَّبِيُّ فَمَاتَ هَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَهَلْ يُعْرَضُ عَلَى الصَّبِيِّ الْإِسْلَامُ

وَقَالَ الْحَسَنُ وَشُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَالْوَلَدُ مَعَ الْمُسْلِمِ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَعَ أُمِّهِ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أَبِيهِ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ وَقَالَ الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه‏؟‏ وهل يعرض على الصبي الإسلام‏)‏ ‏؟‏ هذه الترجمة معقودة لصحة إسلام الصبي، وهي مسألة اختلاف كما سنبينه‏.‏

وقوله ‏"‏وهل يعرض عليه ‏"‏ ذكره هنا بلفظ الاستفهام، وترجم في كتاب الجهاد بصيغة تدل على الجزم بذلك فقال ‏"‏ وكيف يعرض الإسلام على الصبي ‏"‏‏؟‏ وكأنه لما أقام الأدلة هنا على صحة إسلامه استغنى بذلك وأفاد هناك ذكر الكيفية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الحسن إلخ‏)‏ أما أثر الحسن فأخرجه البيهقي من طريق محمد بن نصر أظنه في كتاب الفرائض له قال ‏"‏ حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا يزيد بن زريع عن يونس عن الحسن في الصغير‏؟‏ قال‏:‏ مع المسلم من والديه‏.‏

وأما أثر إبراهيم فوصله عبد الرزاق عن معمر عن مغيرة عن إبراهيم قال في نصرانيين بينهما ولد صغير فاسلم أحدهما‏؟‏ قال‏:‏ أولاهما به المسلم‏.‏

وأما أثر شريح فأخرجه البيهقي بالإسناد المذكور إلى يحيى بن يحيى ‏"‏ حدثنا هشيم عن أشعث عن الشعبي عن شريح أنه اختصم إليه في صبي أحد أبويه نصراني، قال‏:‏ الوالد المسلم أحق بالولد‏"‏‏.‏

وأما أثر قتادة فوصله عبد الرزاق عن معمر عنه نحو قول الحسن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان ابن عباس مع أمه من المستضعفين‏)‏ وصله المصنف في الباب من حديثه بلفظ كنت أنا وأمي من المستضعفين، واسم أمه لبابة بنت الحارث الهلالية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولم يكن مع أبيه على دين قومه‏)‏ هذا قاله المصنف تفقها، وهو مبني على أن إسلام العباس كان بعد وقعة بدر، وقد اختلف في ذلك فقيل‏:‏ أسلم قبل الهجرة وأقام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك لمصلحة المسلمين، روى ذلك ابن سعد من حديث ابن عباس، وفي إسناده الكلبي وهو متروك‏.‏

ويرده أن العباس أسر ببدر، وقد فدى نفسه كما سيأتي في المغازي واضحا، ويرده أيضا أن الآية التي في قصة المستضعفين نزلت بعد بدر بلا خلاف، فالمشهور أنه أسلم قبل فتح خيبر، ويدل عليه حديث أنس في قصة الحجاج بن علاط كما أخرجه أحمد والنسائي، وروى ابن سعد من حديث ابن عباس أنه هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر ورده بقصة الحجاج المذكور، والصحيح أنه هاجر عام الفتح في أول السنة وقدم مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهد الفتح والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال‏:‏ الإسلام يعلو ولا يعلى‏)‏ كذا في جميع نسخ البخاري لم يعين القائل، وكنت أظن أنه معطوف على قول ابن عباس فيكون من كلامه، ثم لم أجده من كلامه بعد التتبع الكثير، ورأيته موصولا مرفوعا من حديث غيره أخرجه الدارقطني ومحمد بن هرون الروياني في مسنده من حديث عائذ بن عمرو المزني بسند حسن، ورويناه في ‏"‏ فوائد أبي يعلى الخليلي ‏"‏ من هذا الوجه وزاد في أوله قصة وهي أن عائذ بن عمرو جاء يوم الفتح مع أبي سفيان بن حرب، فقال الصحابة‏:‏ هذا أبو سفيان وعائذ بن عمرو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هذا عائد بن عمرو وأبو سفيان، الإسلام أعز من ذلك، الإسلام يعلو ولا يعلى‏.‏

وفي هذه القصة أن للمبدأ به في الذكر تأثيرا في الفضل لما يفيده من الاهتمام، وليس فيه حجة على أن الواو ترتب‏.‏

ثم وجدته من قول ابن عباس كما كنت أظن ذكره ابن حزم في المحلى قال‏:‏ ومن طريق حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال ‏"‏ إذا أسلمت اليهودية أو النصرانية تحت اليهودي أو النصراني يفرق بينهما، الإسلام يعلو ولا يعلى‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ الْحُلُمَ فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لِابْنِ صَيَّادٍ تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَرَفَضَهُ وَقَالَ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ فَقَالَ لَهُ مَاذَا تَرَى قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُلِّطَ عَلَيْكَ الْأَمْرُ ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ هُوَ الدُّخُّ فَقَالَ اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ وَقَالَ سَالِمٌ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى النَّخْلِ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ ابْنُ صَيَّادٍ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ يَعْنِي فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ أَوْ زَمْرَةٌ فَرَأَتْ أمُّ ابْنِ صَيّادٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ فَقَالَتْ لِابْنِ صَيَّادٍ يَا صَافِ وَهُوَ اسْمُ ابْنِ صَيَّادٍ هَذَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ وَقَالَ شُعَيْبٌ فِي حَدِيثِهِ فَرَفَصَهُ رَمْرَمَةٌ أَوْ زَمْزَمَةٌ وَقَالَ إِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ وَعُقَيْلٌ رَمْرَمَةٌ وَقَالَ مَعْمَرٌ رَمْزَةٌ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر في قصة ابن صياد وسيأتي الكلام عليه مستوفى في الباب المشار إليه في الجهاد، ومقصود البخاري منه الاستدلال هنا بقوله صلى الله عليه وسلم لابن صياد ‏"‏ أتشهد أني رسول الله ‏"‏‏؟‏ وكان إذ ذاك دون البلوغ قوله‏:‏ ‏"‏ أطم ‏"‏ بضمتين بناء كالحصن‏.‏

و ‏"‏ مغالة ‏"‏ بفتح الميم والمعجمة الخفيفة بطن من الأنصار، وابن صياد في رواية أبي ذر صائد وكلا الأمرين كان يدعى به، وقوله ‏"‏فرفضه ‏"‏ للأكثر بالضاد المعجمة أي تركه، قال الزين بن المنير‏:‏ أنكرها القاضي‏.‏

ولبعضهم بالمهملة أي دفعه برجله، قال عياض‏:‏ كذا في رواية أبي ذر عن غير المستملي ولا وجه لها‏.‏

قال المازري‏:‏ لع له رفسه بالسين المهملة أي ضربه برجله، قال عياض‏:‏ لم أجد هذه اللفظة في جماهير اللغة يعني بالصاد، قال‏:‏ وقد وقع في رواية الأصيلي بالقاف بدل الفاء‏.‏

وفي رواية عبدوس ‏"‏ فوقصه ‏"‏ بالواو والقاف، وقوله ‏"‏وهو يختل ‏"‏ بمعجمة ساكنة بعدها مثناة مكسورة أي يخدعه، والمراد أنه كان يريد أن يستغفله ليسمع كلامه وهو لا يشعر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏له فيها رمزة أو زمرة‏)‏ كذا للأكثر على الشك في تقديم الراء على الزاي أو تأخيرها، ولبعضهم ‏"‏ زمزمة أو رمرمة ‏"‏ على الشك هل هو بزايين أو براءين مع زيادة ميم فيهما، ومعاني هذه الكلمات المختلفة متقاربة، فأما التي بتقديم الراء وميم واحدة فهي فعلة من الرمز وهو الإشارة، وأما التي بتقديم الزاي كذلك فمن الزمر والمراد حكاية صوته، وأما التي بالمهملتين وميمين فأصله من الحركة وهي هنا بمعني الصوت الخفي، وأما التي بالمعجمتين كذلك فقال الخطابي‏:‏ هو تحريك الشفتين بالكلام‏.‏

وقال غيره‏:‏ وهو كلام العلوج وهو صوت يصوت من الخياشيم والحلق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فثار ابن صياد‏)‏ أي قام كذا للأكثر، وللكشميهني ‏"‏ فثاب ‏"‏ بموحدة أي رجع عن الحالة التي كان فيها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال شعيب زمزمة فرفصه‏)‏ في رواية أبي ذر بالزايين وبالصاد المهملة‏.‏

وفي رواية غيره ‏"‏ وقال شعيب في حديثه فرفصه زمزمة أو رمرمة ‏"‏ بالشك‏.‏

وسيأتي في الأدب موصولا من هذا الوجه بالشك، لكن فيه ‏"‏ فرصه ‏"‏ بغير فاء وبالتشديد، وذكر الخطابي في غريبه بمهملة أي ضغطه وضم بعضه إلى بعض‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال إسحاق الكلبي وعقيل رمرمة‏)‏ يعني بمهملتين ‏(‏وقال معمر رمزة‏)‏ يعني براء ثم زاي، أما رواية إسحاق فوصلها الذهلي في الزهريات وسقطت من رواية المستملي والكشميهني وأبي الوقت، وأما رواية عقيل فوصلها المصنف في الجهاد وكذا رواية معمر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ وَهْوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ

الشرح‏:‏

‏(‏كان غلام يهودي يخدم‏)‏ لم أقف في شيء من الطرق الموصولة على تسميته، إلا أن ابن بشكوال ذكر أن صاحب ‏"‏ العتبية ‏"‏ حكى عن زياد شيطون أن اسم هذا الغلام عبد القدوس، قال‏:‏ وهو غريب ما وجدته عند غيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهو عنده‏)‏ في رواية أبي داود ‏"‏ عند رأسه ‏"‏ أخرجه عن سليمان بن حرب شيخ البخاري فيه، وكذا للإسماعيلي عن أبي خليفة عن سليمان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأسلم‏)‏ في رواية النسائي عن إسحاق بن راهويه عن سليمان المذكور فقال ‏"‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنقذه من النار‏)‏ في رواية أبي داود وأبي خليفة ‏"‏ أنقذه بي من النار ‏"‏ وفي الحديث جواز استخدام المشرك، وعيادته إذا مرض، وفيه حسن العهد، واستخدام الصغير، وعرض الإسلام على الصبي ولولا صحته منه ما عرضه عليه‏.‏

وفي قوله ‏"‏ أنقذه بي من النار ‏"‏ دلالة على أنه صح إسلامه، وعلى أن الصبي إذا عقل الكفر ومات عليه أنه يعذب‏.‏

وسيأتي البحث في ذلك من حديث سمرة الطويل في الرؤيا الآتي في ‏"‏ باب أولاد المشركين ‏"‏ في أواخر الجنائز‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ أَنَا مِنْ الْوِلْدَانِ وَأُمِّي مِنْ النِّسَاءِ

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس ‏"‏ كنت أنا وأمي من المستضعفين ‏"‏ وقد تقدم الكلام عليه في الترجمة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ يُصَلَّى عَلَى كُلِّ مَوْلُودٍ مُتَوَفًّى وَإِنْ كَانَ لِغَيَّةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ يَدَّعِي أَبَوَاهُ الْإِسْلَامَ أَوْ أَبُوهُ خَاصَّةً وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ إِذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا صُلِّيَ عَلَيْهِ وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ لَا يَسْتَهِلُّ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سِقْطٌ فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُحَدِّثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا الْآيَةَ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة في أن كل مولود يولد على الفطرة، أخرجه من طريق ابن شهاب عن أبي هريرة منقطعا، ومن طريق آخر عنه عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فالاعتماد في المرفوع على الطريق الموصولة، وإنما أورد المنقطعة لقول ابن شهاب الذي استنبطه من الحديث، وقول ابن شهاب ‏"‏ لغية ‏"‏ بكسر اللام والمعجمة وتشديد التحتانية أي من زنا، ومراده أنه يصلى على ولد الزنا ولا يمنع ذلك من الصلاة عليه لأنه محكوم بإسلامه تبعا لأمه، وكذلك من كان أبوه مسلما دون أمه‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ لم يقل أحد إنه لا يصلى على ولد الزنا إلا قتادة وحده، واختلف في الصلاة على الصبي فقال سعيد بن جبير‏:‏ لا يصلى عليه حتى يبلغ، وقيل حتى يصلي‏.‏

وقال الجمهور‏:‏ يصلى عليه حتى السقط إذا استهل‏.‏

وقد تقدم في ‏"‏ باب قراءة فاتحة الكتاب ‏"‏ ما يقال في الصلاة على جنازة الصبي، ودخل في قوله ‏"‏ كل مولود ‏"‏ السقط فلذلك قيده بالاستهلال، وهذا مصير من الزهري إلى تسمية الزاني أبا لمن زنى بأمه فإنه يتبعه في الإسلام، وهو قول مالك، وسيأتي الكلام على المتن المرفوع وعلى ذكر الاختلاف على الزهري فيه في ‏"‏ باب أولاد المشركين ‏"‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب إِذَا قَالَ الْمُشْرِكُ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ لم يأت بجواب إذا لأنه صلى الله عليه وسلم لما قال لعمه ‏"‏ قل لا إله إلا الله أشهد لك بها ‏"‏ كان محتملا لأن يكون ذلك خاصا به، لأن غيره إذا قالها وقد أيقن بالوفاة لم ينفعه‏.‏

ويحتمل أن يكون ترك جواب إذا ليفهم الواقف عليه أنه موضع تفصيل وفكر، وهذا هو المعتمد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ يَا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ الْآيَةَ

الشرح‏:‏

حديث سعيد بن المسيب عن أبيه أورده المصنف في قصة أبي طالب عند موته، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في تفسير براءة‏.‏

وقوله في هذه الطريق ‏"‏ ما لم أنه عنه ‏"‏ أي الاستغفار‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ عنك‏"‏‏.‏

وقوله ‏"‏فأنزل الله فيه الآية ‏"‏ يعني قوله تعالى ‏(‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين‏)‏ الآية كما سيأتي‏.‏

وقد ثبت لغير أبي ذر ‏"‏ فأنزل الله فيه‏:‏ ما كان للنبي ‏"‏ الآية‏.‏

*3*باب الْجَرِيدِ عَلَى الْقَبْرِ

وَأَوْصَى بُرَيْدَةُ الْأَسْلَمِيُّ أَنْ يُجْعَلَ فِي قَبْرِهِ جَرِيدَانِ وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فُسْطَاطًا عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ انْزِعْهُ يَا غُلَامُ فَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ رَأَيْتُنِي وَنَحْنُ شُبَّانٌ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنَّ أَشَدَّنَا وَثْبَةً الَّذِي يَثِبُ قَبْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ حَتَّى يُجَاوِزَهُ وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ أَخَذَ بِيَدِي خَارِجَةُ فَأَجْلَسَنِي عَلَى قَبْرٍ وَأَخْبَرَنِي عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِمَنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ وَقَالَ نَافِعٌ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَجْلِسُ عَلَى الْقُبُورِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الجريدة على القبر‏)‏ أي وضعها أو غرزها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأوصى بريدة الأسلمي إلخ‏)‏ وقع في رواية الأكثر ‏"‏ في قبره ‏"‏ وللمستملي ‏"‏ على قبره ‏"‏ وقد وصله ابن سعد من طريق مورق العجلي قال ‏"‏ أوصى بريدة أن يوضع في قبره جريدتان، ومات بأدنى خراسان ‏"‏ قال ابن المرابط وغيره‏:‏ يحتمل أن يكون بريدة أمر أن يغرزا في ظاهر القبر اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في وضعه الجريدتين في القبرين، ويحتمل أن يكون أمر أن يجعلا في داخل القبر لما في النخلة من البركة لقوله تعالى ‏(‏كشجرة طيبة‏)‏ والأول أظهر، ويؤيده إيراد المصنف حديث القبرين في آخر الباب، وكأن بريدة حمل الحديث على عمومه ولم يره خاصا بذينك الرجلين‏.‏

قال ابن رشيد‏:‏ ويظهر من تصرف البخاري أن ذلك خاص بهما فلذلك عقبه بقول ابن عمر ‏"‏ إنما يظله عمله‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ورأى ابن عمر فسطاطا على قبر عبد الرحمن‏)‏ الفسطاط بضم الفاء وسكون المهملة وبطاءين مهملتين هو البيت من الشعر، وقد يطلق على غير الشعر، وفيه لغات أخرى بتثليث الفاء وبالمثناتين بدل الطاءين وإبدال الطاء الأولى مثناة وإدغامهما في السين وكسر أوله في الثلاثة، وعبد الرحمن هو ابن أبي بكر الصديق بينه ابن سعد في روايته له موصولا من طريق أيوب بن عبد الله بن يسار قال ‏"‏ مر عبد الله بن عمر على قبر عبد الرحمن بن أبي بكر أخي عائشة وعليه فسطاط مضروب، فقال‏:‏ يا غلام انزعه، فإنما يظله عمله‏.‏

قال الغلام‏:‏ تضربني مولاتي‏.‏

قال‏:‏ كلا‏.‏

فنزعه‏"‏‏.‏

ومن طريق ابن عون عن رجل قال ‏"‏ قدمت عائشة ذا طوى حين رفعوا أيديهم عن عبد الرحمن بن أبي بكر، فأمرت بفسطاط فضرب على قبره ووكلت به إنسانا وارتحلت، فقدم ابن عمر ‏"‏ فذكر نحوه، وقد تقدم توجيه إدخال هذا الأثر تحت هذه الترجمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال خارجة بن زيد‏)‏ أي ابن ثابت الأنصاري أحد ثقات التابعين، وهو أحد السبعة الفقهاء من أهل المدينة إلخ‏.‏

وصله المصنف في ‏"‏ التاريخ الصغير ‏"‏ من طريق ابن إسحاق ‏"‏ حدثني يحيى بن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري سمعت خارجة بن زيد ‏"‏ فذكره، وفيه جواز تعلية القبر ورفعه عن وجه الأرض، وقوله ‏"‏رأيتني ‏"‏ بضم المثناة والفاعل والمفعول ضميران لشيء واحد، وهو من خصائص أفعال القلوب‏.‏

ومظعون والد عثمان بظاء معجمة ساكنة ثم مهملة، ومناسبته من وجه أن وضع الجريد على القبر يرشد إلى جواز وضع ما يرتفع به ظهر القبر عن الأرض، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في آخر الجنائز‏.‏

قال ابن المنير في الحاشية‏:‏ أراد البخاري أن الذي ينفع أصحاب القبور هي الأعمال الصالحة، وأن علو البناء والجلوس عليه وغير ذلك لا يضر بصورته وإنما يضر بمعناه إذا تكلم القاعدون عليه بما يضر مثلا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عثمان بن حكيم‏:‏ أخذ بيدي خارجة‏)‏ أي ابن زيد بن ثابت إلخ، وصله مسدد في مسنده الكبير وبين فيه سبب إخبار خارجة لحكيم بذلك ولفظه ‏"‏ حدثنا عيسى بن يونس حدثنا عثمان بن حكيم حدثنا عبد الله بن سرجس وأبو سلمة بن عبد الرحمن أنهما سمعا أبا هريرة يقول‏:‏ لأن أجلس على جمرة فتحرق ما دون لحمي حتى تفضي إلي، أحب إلي من أن أجلس على قبر‏.‏

قال عثمان‏:‏ فرأيت خارجة بن زيد في المقابر، فذكرت له ذلك، فأخذ بيدي ‏"‏ الحديث‏.‏

وهذا إسناد صحيح‏.‏

وقد أخرج مسلم حديث أبي هريرة مرفوعا من طريق سهل بن أبي صالح عن أبيه عنه، وروى الطحاوي من طريق محمد بن كعب قال‏:‏ إنما قال أبو هريرة‏:‏ من جلس على قبر يبول عليه أو يتغوط فكأنما جلس على جمرة، لكن إسناده ضعيف‏.‏

قال ابن رشيد‏:‏ الظاهر أن هذا الأثر والذي بعده من الباب الذي بعد هذا وهو ‏"‏ باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله ‏"‏ وكأن بعض الرواة كتبه في غير موضعه قال‏:‏ وقد يتكلف له طريق يكون به من الباب وهي الإشارة إلى أن ضرب الفسطاط إن كان لغرض صحيح كالتستر من الشمس مثلا للحي لا لإظلال الميت فقط جاز، وكأنه يقول‏:‏ إذا أعلى القبر لغرض صحيح لا لقصد المباهاة جاز كما يجوز القعود عليه لغرض صحيح لا لمن أحدث عليه‏.‏

قال‏:‏ والظاهر أن المراد بالحدث هنا التغوط، ويحتمل أن يريد ما هو أعم من ذلك من إحداث ما لا يليق من الفحش قولا وفعلا لتأذي الميت بذلك انتهى‏.‏

ويمكن أن يقال‏:‏ هذه الآثار المذكورة في هذا الباب تحتاج إلى بيان مناسبتها للترجمة، وإلى مناسبة بعضها لبعض، وذلك أنه لم يذكر حكم وضع الجريدة، وذكر أثر بريدة وهو يؤذن بمشروعيتها، ثم أثر ابن عمر المشعر بأنه لا تأثير لما يوضع على القبر، بل التأثير للعمل الصالح، وظاهرهما التعارض فلذلك أبهم حكم وضع الجريدة، قال الزين بن المنير‏.‏

والذي يظهر من تصرفه ترجيح الوضع، ويجاب عن أثر ابن عمر بأن ضرب الفسطاط على القبر لم يرد فيه ما ينتفع به الميت بخلاف وضع الجريدة لأن مشروعيتها ثبتت بفعله صلى الله عليه وسلم، إن كان بعض العلماء قال‏:‏ إنها واقعة عين يحتمل أن تكون مخصوصة بمن أطلعه الله تعالى على حال الميت، وأما الآثار الواردة في الجلوس على القبر فإن عموم قول ابن عمر ‏"‏ إنما يظله عمله ‏"‏ يدخل فيه أنه كما لا ينتفع بتظليله ولو كان تعظيما له لا يتضرر بالجلوس عليه ولو كان تحقيرا له‏.‏

والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال نافع‏:‏ كان ابن عمر يجلس على القبور‏)‏ ووصله الطحاوي من طريق بكير بن عبد الله بن الأشج أن نافعا حدثه بذلك، ولا يعارض هذا ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه قال ‏"‏ لأن أطأ على رضف أحب إلي من إن أطأ على قبر ‏"‏ وهذه من المسائل المختلف فيها، وورد فيها من صحيح الحديث ما أخرجه مسلم عن أبي مرثد الغنوي مرفوعا ‏"‏ لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها ‏"‏ قال النووي‏:‏ المراد بالجلوس القعود عند الجمهور‏.‏

وقال مالك‏:‏ المراد بالقعود الحدث، وهو تأويل ضعيف أو باطل انتهى‏.‏

وهو يوهم انفراد مالك بذلك، وكذا أوهمه كلام ابن الجوزي حيث قال‏:‏ جمهور الفقهاء على الكراهة خلافا لمالك، وصرح النووي في ‏"‏ شرح المهذب ‏"‏ بأن مذهب أبي حنيفة كالجمهور، وليس كذلك، بل مذهب أبي حنيفة وأصحابه كقول مالك كما نقله عنهم الطحاوي واحتج له بأثر ابن عمر المذكور‏.‏

وأخرج عن علي نحوه، وعن زيد بن ثابت مرفوعا ‏"‏ إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على القبور لحدث غائط أو بول ‏"‏ ورجال إسناده ثقات‏.‏

ويؤيد قول الجمهور ما أخرجه أحمد من حديث عمرو بن حزم الأنصاري مرفوعا ‏"‏ لا تقعدوا على القبور ‏"‏ وفي رواية له عنه ‏"‏ رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متكئ على قبر فقال‏:‏ لا تؤذ صاحب القبر ‏"‏ إسناده صحيح، وهو دال على أن المراد بالجلوس القعود على حقيقته، ورد ابن حزم التأويل المتقدم بأن لفظ حديث أبي هريرة عند مسلم ‏"‏ لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده ‏"‏ قال‏:‏ وما عهدنا أحدا يقعد على ثيابه للغائط، فدل على أن المراد القعود على حقيقته‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ التأويل المذكور بعيد، لأن الحدث على القبر أقبح من أن يكره، وإنما يكره الجلوس المتعارف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ فَقَالَ إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا بِنِصْفَيْنِ ثُمَّ غَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا فَقَالَ لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا يحيى‏)‏ قال أبو علي الجياني‏:‏ لم أره منسوبا لأحد من المشايخ‏.‏

قلت‏:‏ قد نسبه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ يحيى بن جعفر، وجزم أبو مسعود في ‏"‏ الأطراف ‏"‏ وتبعه المزي بأنه يحيى بن يحيى، ووقع في رواية أبي علي بن شبويه عن الفربري ‏"‏ حدثنا يحيى بن موسى ‏"‏ وهذا هو المعتمد‏.‏

وقد تقدم الكلام على حديث ابن عباس في كتاب الوضوء بما فيه مقنع بعون الله تعالى‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب مَوْعِظَةِ الْمُحَدِّثِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَقُعُودِ أَصْحَابِهِ حَوْلَهُ

يَخْرُجُونَ مِنْ الْأَجْدَاثِ الْأَجْدَاثُ الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ أُثِيرَتْ بَعْثَرْتُ حَوْضِي أَيْ جَعَلْتُ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ الْإِيفَاضُ الْإِسْرَاعُ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ إِلَى نَصْبٍ إِلَى شَيْءٍ مَنْصُوبٍ يَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ وَالنُّصْبُ وَاحِدٌ وَالنَّصْبُ مَصْدَرٌ يَوْمُ الْخُرُوجِ مِنْ الْقُبُورِ يَنْسِلُونَ يَخْرُجُونَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله‏)‏ كأنه يشير إلى التفصيل بين أحوال القعود، فإن كان لمصلحة تتعلق بالحي أو الميت لم يكره، ويحمل النهي الوارد عن ذلك على ما يخالف ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يخرجون من الأجداث‏:‏ الأجداث القبور‏)‏ أي المراد بالأجداث في الآية القبور‏.‏

وقد وصله ابن أبي حاتم وغيره من طريق قتادة والسدي وغيرهما، واحدها جدث بفتح الجيم والمهملة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بعثرت‏:‏ أثيرت‏.‏

بعثرت حوضي‏:‏ جعلت أسفله أعلاه‏)‏ هذا كلام أبي عبيدة في ‏"‏ كتاب المجاز‏"‏‏.‏

وقال السدي‏:‏ بعثرت أي حركت، فخرج ما فيها‏.‏

رواه ابن أبي حاتم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الإيفاض‏)‏ بياء تحتانية ساكنة قبلها كسرة وبفاء ومعجمة ‏(‏الإسراع‏)‏ كذا قال الفراء في ‏"‏ المعاني‏"‏‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ يوفضون أي يسرعون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقرأ الأعمش‏:‏ إلى نصب‏)‏ يعني بفتح النون كذا للأكثر‏.‏

وفي رواية أبي ذر بالضم، والأول أصح‏.‏

وكذا ضبطه الفراء عن الأعمش في ‏"‏ كتاب المعاني ‏"‏ وهي قراءة الجمهور‏.‏

وحكى الطبراني أنه لم يقرأه بالضم ألا الحسن البصري‏.‏

وقد حكى الفراء عن زيد بن ثابت ذلك، ونقلها غيره عن مجاهد وأبي عمران الجوني‏.‏

وفي ‏"‏ كتاب السبعة ‏"‏ لابن مجاهد‏:‏ قرأها ابن عامر بضمتين، يعني بلفظ الجمع‏.‏

وكذا قرأها حفص عن عاصم‏.‏

ومن هنا يظهر سبب تحصيص الأعمش بالذكر لأنه كوفي، وكذا عاصم ففي انفراد حفص عن عاصم بالضم شذوذ‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ النصب بالفتح هو العلم الذي نصبوه ليعبدوه، ومن قرأ نصب بالضم فهي جماعة مثل رهن ورهن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يوفضون إلى شيء منصوب‏:‏ يستبقون‏)‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي حدثنا مسلم بن إبراهيم عن قرة عن الحسن في قوله‏:‏ ‏(‏إلى نصب يوفضون‏)‏ أي يبتدرون أيهم يستلمه أول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والنصب واحد والنصب مصدر‏)‏ كذا وقع فيه، والذي في ‏"‏ المعاني للفراء ‏"‏ النصب والنصب واحد وهو مصدر والجمع الأنصاب‏.‏

وكأن التغيير من بعض النقلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يوم الخروج من قبورهم‏)‏ أي خروج أهل القبور من قبورهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وينسلون يخرجون‏)‏ كذا أورده عبد بن حميد وغيره عن قتادة، وسيأتي له معنى آخر إن شاء الله تعالى‏.‏

وفي نسخة الصغاني بعد قوله‏:‏ ‏(‏يخرجون‏)‏ ‏:‏ من النسلان‏.‏

وهذه التفاسير أوردها لتعلقها بذكر القبر استطرادا، ولها تعلق بالموعظة أيضا‏.‏

وقال الزين بن المنير‏:‏ مناسبة إيراد هذه الآيات في هذه الترجمة للإشارة إلى أن المناسب لمن قعد عند القبر إن يقصر كلامه على الإنذار بقرب المصير إلى القبور ثم إلى النشر لاستيفاء العمل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ حَدَّثَنِي جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَأَتَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلَّا قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ قَالَ أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى الْآيَةَ

الشرح‏:‏

حديث علي بن أبي طالب أورده المصنف مرفوعا ‏"‏ ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار ‏"‏ الحديث‏.‏

وسيأتي مبسوطا في تفسير ‏(‏والليل إذا يغشى‏)‏ ، وهو أصل عظيم في إثبات القدر‏.‏

وقوله فيه ‏"‏ اعملوا ‏"‏ جرى مجرى أسلوب الحكيم، أي الزموا ما يجب على العبد من العبودية، ولا تتصرفوا في أمر الربوبية‏.‏

وعثمان شيخه هو ابن أبي شيبة، وجرير هو ابن عبد الحميد‏.‏

وموضع الحاجة منه ‏"‏ فقعد وقعدنا حوله‏"‏‏.‏

وقوله ‏"‏فقال رجل ‏"‏ هو عمر أو غيره كما سيأتي إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب مَا جَاءَ فِي قَاتِلِ النَّفْسِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما جاء في قاتل النفس‏)‏ قال ابن رشيد‏:‏ مقصود الترجمة حكم قاتل النفس‏.‏

والمذكور في الباب حكم قاتل نفسه، فهو أخص من الترجمة، ولكنه أراد أن يلحق بقاتل نفسه قاتل غيره من باب الأولى، لأنه إذا كان قاتل نفسه الذي لم يتعد ظلم نفسه ثبت فيه الوعيد الشديد فأولى من ظلم غيره بإفاتة نفسه‏.‏

قال ابن المنير في الحاشية‏:‏ عادة البخاري إذا توقف في شيء ترجم عليه ترجمة مبهمة كأنه ينبه على طريق الاجتهاد‏.‏

وقد نقل عن مالك أن قاتل النفس لا تقبل توبته، ومقتضاه أن لا يصلى عليه، وهو نفس قول البخاري‏.‏

قلت‏:‏ لعل البخاري أشار بذلك إلى ما رواه أصحاب السنن من حديث جابر بن سمرة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه ‏"‏ وفي رواية للنسائي ‏"‏ أما أنا فلا أصلي عليه‏"‏، لكنه لما لم يكن على شرطه أومأ إليه بهذه الترجمة وأورد فيها ما يشبهه من قصة قاتل نفسه‏.‏

ثم أورد المصنف في الباب ثلاثة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا جُنْدَبٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ فَمَا نَسِينَا وَمَا نَخَافُ أَنْ يَكْذِبَ جُنْدَبٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ اللَّهُ بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ

الشرح‏:‏

حديث ثابت بن الضحاك فيمن قتل نفسه بحديدة، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في الأيمان والنذور، وخالد المذكور في إسناده هو الحذاء‏.‏

ثانيها حديث جندب، هو ابن عبد الله البجلي قال فيه ‏"‏ قال حجاج بن منهال حدثنا جرير بن حازم ‏"‏ وقد وصله في ذكر بني إسرائيل فقال‏:‏ ‏"‏ حدثنا محمد حدثنا حجاج بن منهال ‏"‏ فذكره‏.‏

وهو أحد المواضع التي يستدل بها على أنه ربما علق عن بعض شيوخه ما بينه وبينه فيه واسطة، لكنه أورده هنا مختصرا وأورده هناك مبسوطا فقال في أوله ‏"‏ كان فيمن كان قبلكم رجل ‏"‏ وقال فيه ‏"‏ فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات ‏"‏ وسيأتي الكلام عليه مستوفى هناك، ولم أقف على تسمية هذا الرجل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ وَالَّذِي يَطْعُنُهَا يَطْعُنُهَا فِي النَّارِ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار ‏"‏ وهو من أفراد البخاري من هذا الوجه، وقد أخرجه أيضا في الطب من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مطولا، ومن ذلك الوجه أخرجه مسلم وليس فيه ذكر الخنق، وفيه من الزيادة ذكر السم وغيره ولفظه ‏"‏ فهو في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ‏"‏ وقد تمسك به المعتزلة وغيرهم ممن قال بتخليد أصحاب المعاصي في النار، وأجاب أهل السنة عن ذلك بأجوبة‏:‏ منها توهيم هذه الزيادة، قال الترمذي بعد أن أخرجه‏:‏ رواه محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فلم يذكر ‏"‏ خالدا مخلدا ‏"‏ وكذا رواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة يشير إلى رواية الباب قال‏:‏ وهو أصح لأن الروايات قد صحت أن أهل التوحيد يعذبون ثم يخرجون منها ولا يخلدون، وأجاب غيره بحمل ذلك على من استحله، فإنه يصير باستحلاله كافرا والكافر مخلد بلا ريب‏.‏

وقيل‏:‏ ورد مورد الزجر والتغليظ، وحقيقته غير مرادة‏.‏

وقيل‏:‏ المعنى أن هذا جزاؤه، لكن قد تكرم الله على الموحدين فأخرجهم من النار بتوحيدهم‏.‏

وقيل‏:‏ التقدير مخلدا فيها إلى أن يشاء الله‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالخلود طول المدة لا حقيقة الدوام كأنه يقول يخلد مدة معينة، وهذأ أبعدها‏.‏

وسيأتي له مزيد بسط عند الكلام على أحاديث الشفاعة إن شاء الله تعالى‏.‏

واستدل بقوله ‏"‏ الذي يطعن نفسه يطعنها في النار ‏"‏ على أن القصاص من القاتل يكون بما قتل به اقتداء بعقاب الله تعالى لقاتل نفسه، وهو استدلال ضعيف‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قوله في حديث الباب ‏"‏ يطعنها ‏"‏ هو بضم العين المهملة كذا ضبطه في الأصول‏.‏

*3*باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ

رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار للمشركين‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ عدل عن قوله كراهة الصلاة على المنافقين لينبه على أن الامتناع من طلب المغفرة لمن لا يستحقها، لا من جهة العبادة الواقعة من صورة الصلاة، فقد تكون العبادة طاعة من وجه معصية من وجه‏.‏

والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ كأنه يشير إلى حديثه في قصة الصلاة على عبد الله بن أبي أيضا، وقد تقدم في ‏"‏ باب القميص الذي يكف ‏"‏ ثم أورد المصنف الحديث المذكور من طريق ابن عباس عن عمر بن الخطاب، وسيأتي من هذا الوجه أيضا في التفسير‏.‏

*3*باب ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَى الْمَيِّتِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ثناء الناس على الميت‏)‏ أي مشروعيته وجوازه مطلقا، بخلاف الحي فإنه منهي عنه إذا أفضى إلى الإطراء خشية عليه من الزهو، أشار إلى ذلك الزين بن المنير‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَتْ ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ وَجَبَتْ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا وَجَبَتْ قَالَ هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأثنوا عليها خيرا‏)‏ في رواية لنضر بن أنس عن أبيه عند الحاكم ‏"‏ كنت قاعدا عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر بجنازة فقال‏:‏ ما هذه الجنازة‏؟‏ قالوا‏:‏ جنازة فلان الفلاني، كان يحب الله ورسوله، ويعمل بطاعة الله ويسعى فيها‏"‏‏.‏

وقال ضد ذك في التي أثنوا عليها شرا‏.‏

ففيه تفسير ما أبهم من الخير والشر في رواية عبد العزيز‏.‏

وللحاكم أيضا من حديث جابر ‏"‏ فقال بعضهم لنعم المرء، لقد كان عفيفا مسلما ‏"‏ وفيه أيضا ‏"‏ فقال بعضهم بئس المرء كان، إن كان لفظا غليظا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وجبت‏)‏ في رواية إسماعيل بن علية عن عبد العزيز عند مسلم ‏"‏ وجبت وجبت وجبت ‏"‏ ثلاث مرات‏.‏

وكذا في رواية النضر المذكورة، قال النووي‏:‏ والتكرار فيه لتأكيد الكلام المبهم ليحفظ ويكون أبلغ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال عمر‏)‏ زاد مسلم ‏"‏ فداء لك أبي وأمي ‏"‏ وفيه جواز قول مثل ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال‏:‏ هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة‏)‏ فيه بيان لأن المراد بقوله ‏"‏ وجبت ‏"‏ أي الجنة لذي الخير، والنار لذي الشر، والمراد بالوجوب الثبوت إذ هو في صحة الوقوع كالشيء الواجب، والأصل أنه لا يجب على الله شيء، بل الثواب فضله، والعقاب عدله، لا يسأل عما يفعل‏.‏

وفي رواية مسلم ‏"‏ من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ‏"‏ ونحوه للإسماعيلي من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة، وهو أبين في العموم من رواية آدم، وفيه رد على من زعم أن ذلك خاص بالميتين المذكورين لغيب أطلع الله نبيه عليه، وإنما هو خبر عن حكم أعلمه الله به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنتم شهداء الله في الأرض‏)‏ أي المخاطبون بذلك من الصحابة ومن كان على صفتهم من الإيمان‏.‏

وحكى ابن التين أن ذلك مخصوص بالصحابة لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة بخلاف من بعدهم‏.‏

قال‏.‏

والصواب أن ذلك يختص بالثقات والمتقين انتهى‏.‏

وسيأتي في الشهادات بلفظ ‏"‏ المؤمنون شهداء الله في الأرض ‏"‏ ولأبي داود من حديث أبي هريرة في نحو هذه القصة ‏"‏ إن بعضكم على بعض لشهيد ‏"‏ وسيأتي مزيد بسط فيه في الكلام على الحديث الذي بعده‏.‏

قال النووي‏:‏ والظاهر أن الذي أثنوا علنه شرا كان من المنافقين‏.‏

قلت‏:‏ يرشد إلى ذلك ما رواه أحمد من حديث أبي قتادة بإسناد صحيح أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل على الذي أثنوا عليه شرا، وصلى على الآخر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ هُوَ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ قَالَ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمَرَّتْ بِهِمْ جَنَازَةٌ فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَبَتْ ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَبَتْ ثُمَّ مُرَّ بِالثَّالِثَةِ فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا شَرًّا فَقَالَ وَجَبَتْ فَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ فَقُلْتُ وَمَا وَجَبَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ قُلْتُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ فَقُلْنَا وَثَلَاثَةٌ قَالَ وَثَلَاثَةٌ فَقُلْنَا وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنْ الْوَاحِدِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏مر‏)‏ بضم الميم على البناء للمجهول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عفان‏)‏ كذا للأكثر‏.‏

وذكر أصحاب الأطراف أنه أخرجه قائلا فيه ‏"‏ قال عفان ‏"‏ وبذلك جزم البيهقي‏.‏

وقد وصله أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده عن عفان به، ومن طريقه أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا داود بن أبي الفرات‏)‏ هو بلفظ النهر المشهور، واسمه عمرو، وهو كندي من أهل مرو‏.‏

ولهم شيخ آخر يقال له داود بن أبي الفرات اسم أبيه بكر وأبو الفرات اسم جده وهو أشجعي من أهل المدينة؛ أقدم من الكندي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي الأسود‏)‏ هو الديلي التابعي الكبير المشهور، ولم أره من رواية عبد الله بن بريدة عنه إلا معنعنا‏.‏

وقد حكى الدارقطني في ‏"‏ كتاب التتبع ‏"‏ عن علي بن المديني أن ابن بريدة إنما يروي عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود، ولم يقل في هذا الحديث سمعت أبا الأسود‏.‏

قلت‏:‏ وابن بريدة ولد في عهد عمر، فقد أدرك أبا الأسود بلا ريب، لكن البخاري لا يكتفي بالمعاصرة فلعله أخرجه شاهدا واكتفى للأصل بحديث أنس الذي قبله والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قدمت المدينة وقد وقع بها مرض‏)‏ زاد المصنف في الشهادات عن موسى بن إسماعيل عن داود ‏"‏ وهم يموتون موتا ذريعا ‏"‏ وهو بالذال المعجمة أي سريعا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأثني على صاحبها خيرا‏)‏ كذا في جميع الأصول ‏"‏ خيرا ‏"‏ بالنصب، وكذا ‏"‏ شرا ‏"‏ وقد غلط من ضبط أثنى بفتح الهمزة على البناء للفاعل فإنه في جميع الأصول مبني للمفعول، قال ابن التين‏:‏ والصواب الرفع وفي نصبه بعد في اللسان‏.‏

ووجهه غيره بأن الجار والمجرور أقيم مقام المفعول الأول وخيرا مقام الثاني، وهو جائز وإن كان المشهور عكسه‏.‏

وقال النووي‏:‏ هو منصوب بنزع الخافض، أي أثنى عليه بخير‏.‏

وقال ابن مالك‏:‏ ‏"‏ خيرا ‏"‏ صفة لمصدر محذوف فأقيمت مقامه فنصبت، لأن ‏"‏ أثنى ‏"‏ مسند إلى الجار والمجرور‏.‏

قال‏:‏ والتفاوت بين الإسناد إلى المصدر والإسناد إلى الجار والمجرور قليل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال أبو الأسود‏)‏ هو الراوي، وهو بالإسناد المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقلت‏:‏ وما وجبت‏)‏ هو معطوف على شيء مقدر، أي قلت هذا شيء عجيب، وما معنى قوله لكل منهما وجبت مع اختلاف الثناء بالخير والشر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قلت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أيما مسلم إلخ‏)‏ الظاهر أن قوله ‏"‏ أيما مسلم ‏"‏ هو المقول فحينئذ يكون قول عمر لكل منهما ‏"‏ وجبت ‏"‏ قاله بناء على اعتقاده صدق الوعد المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أدخله الله الجنة‏"‏، وأما اقتصار عمر على ذكر أحد الشقين فهو إما للاختصار وإما لإحالته السامع على القياس، والأول أظهر، وعرف من القصة أن المثني على كل من الجنائز المذكورة كان أكثر من واحد، وكذا في قول عمر ‏"‏ قلنا وما وجبت ‏"‏ إشارة إلى أن السائل عن ذلك هو وغيره‏.‏

وقد وقع في تفسير قوله تعالى ‏(‏وكذلك جعلناكم أمة وسطا‏)‏ في البقرة عند ابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة أن أبي بن كعب ممن سأل عن ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقلنا وثلاثة‏)‏ فيه اعتبار مفهوم الموافقة لأنه سأل عن الثلاثة ولم يسأل عما فوق الأربعة كالخمسة مثلا، وفيه أن مفهوم العدد ليس دليلا قطعيا بل هو في مقام الاحتمال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم لم نسأله عن الواحد‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ إنما لم يسأل عمر عن الواحد استبعادا منه أن يكتفى في مثل هذا المقام العظيم بأقل من النصاب‏.‏

وقال أخوه في الحاشية‏:‏ فيه إيماء إلى الاكتفاء بالتزكية بواحد‏.‏

كذا قال، وفيه غموض‏.‏

وقد استدل به المصنف على أن أقل ما يكتفى به في الشهادة اثنان كما سيأتي في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى‏.‏

قال الداودي‏:‏ المعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق، لا الفسقة لأنهم قد يثنون على من يكون مثلهم، ولا من بينه وبين الميت عداوة لأن شهادة العدو لا تقبل‏.‏

وفي الحديث فضيلة هذه الأمة، وإعمال الحكم بالظاهر‏.‏

ونقل الطيبي عن بعض شراح ‏"‏ المصابيح ‏"‏ قال‏:‏ ليس معنى قوله ‏"‏ أنتم شهداء الله في الأرض ‏"‏ أن الذي يقولونه في حق شخص يكون كذلك حتى يصير من يستحق الجنة من أهل النار بقولهم، ولا العكس، بل معناه أن الذي أثنوا عليه خيرا رأوه منه كان ذلك علامة كونه من أهل الجنة، وبالعكس‏.‏

وتعقبه الطيبي بأن قوله ‏"‏ وجبت ‏"‏ بعد الثناء حكم عقب وصفا مناسبا فأشعر بالعلية‏.‏

وكذا قوله ‏"‏ أنتم شهداء الله في الأرض ‏"‏ لأن الإضافة فيه للتشريف لأنهم بمنزلة عالية عند الله، فهو كالتزكية للأمة بعد أداء شهادتهم، فينبغي أن يكون لها أثر‏.‏

قال‏:‏ وإلى هذا يومئ قوله تعالى ‏(‏وكذلك جعلناكم أمة وسطا‏)‏ الآية‏.‏

قلت‏:‏ وقد استشهد محمد بن كعب القرظي لما روى عن جابر نحو حديث أنس بهذه الآية، أخرجه الحاكم‏.‏

وقد وقع ذلك في حديث مرفوع غيره عند ابن أبي حاتم في التفسير، وفيه أن الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما قولك وجبت ‏"‏ هو أبي بن كعب‏.‏

وقال النووي‏:‏ قال بعضهم معنى الحديث أن الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل - وكان ذلك مطابقا للواقع - فهو من أهل الجنة، فإن كان غير مطابق فلا، وكذا عكسه‏.‏

قال‏:‏ والصحيح أنه على عمومه وأن من مات منهم فألهم الله تعالى الناس الثناء عليه بخير كان دليلا على أنه من أهل الجنة سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا، فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة، وهذا إلهام يستدل به على تعيينها، وبهذا تظهر فائدة الثناء انتهى‏.‏

وهذا في جانب الخير واضح، ويؤيده ما رواه أحمد وابن حبان والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مرفوعا ‏"‏ ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون منه إلا خيرا إلا قال الله تعالى‏:‏ قد قبلت قولكم وغفرت له ما لا تعلمون ‏"‏ ولأحمد من حديث أبي هريرة نحوه وقال ‏"‏ ثلاثة ‏"‏ بدل أربعة وفي إسناده من لم يسم، وله شاهد من مراسيل بشير بن كعب أخرجه أبو مسلم الكجي‏.‏

وأما جانب الشر فظاهر الأحاديث أنه كذلك، لكن إنما يقع ذلك في حق من غلب شره على خيره، وقد وقع في رواية النضر المشار إليها أولا في آخر حديث أنس ‏"‏ إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر ‏"‏ واستدل به على جواز ذكر المرء بما فيه من خير أو شر للحاجة ولا يكون ذلك من الغيبة‏.‏

وسيأتي البحث عن ذلك في ‏"‏ باب النهي عن سب الأموات ‏"‏ آخر الجنائز، وهو أصل في قبول الشهادة بالاستفاضة، وأن أقل أصلها اثنان‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ فيه جواز الشهادة قبل الاستشهاد، وقبولها قبل الاستفصال‏.‏

وفيه استعمال الثناء في الشر للمؤاخاة والمشاكلة، وحقيقته إنما هي في الخير‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب مَا جَاءَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الْهُونُ هُوَ الْهَوَانُ وَالْهَوْنُ الرِّفْقُ وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما جاء في عذاب القبر‏)‏ لم يتعرض المصنف في الترجمة لكون عذاب القبر يقع على الروح فقط أو عليها وعلى الجسد، وفيه خلاف شهير عند المتكلمين، وكأنه تركه لأن الأدلة التي يرضاها ليست قاطعة في أحد الأمرين فلم يتقلد الحكم في ذلك واكتفى بإثبات وجوده، خلافا لمن نفاه مطلقا من الخوارج وبعض المعتزلة كضرار بن عمرو وبشر المريسي ومن وافقهما، وخالفهم في ذلك أكثر المعتزلة وجميع أهل السنة وغيرهم وأكثروا من الاحتجاج له‏.‏

وذهب بعض المعتزلة كالجياني إلى أنه يقع على الكفار دون المؤمنين، وبعض الأحاديث الآتية ترد عليهم أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقوله تعالى‏)‏ بالجر عطفا على عذاب القبر، أي ما ورد في تفسير الآيات المذكورة‏.‏

وكأن المصنف قدم ذكر هذه الآيات لينبه على ثبوت ذكره في القرآن، خلافا لمن رده وزعم أنه لم يرد ذكره إلا من أخبار الآحاد‏.‏

فأما الآية التي في الأنعام فروى الطبراني وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى ‏(‏ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت الملائكة باسطو أيديهم‏)‏ قال‏:‏ هذا عند الموت، والبسط الضرب يضربون وجوههم وأدبارهم انتهى‏.‏

ويشهد له قوله تعالى في سورة القتال ‏(‏فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم‏}‏ وهذا وإن كان قبل الدفن فهو من جملة العذاب الواقع قبل يوم القيامة، وإنما أضيف العذاب إلى القبر لكون معظمه يقع فيه، ولكون الغالب على الموتى أن يقبروا، إلا فالكافر ومن شاء الله تعذيبه من العصاة يعذب بعد موته ولو لم يدفن، ولكن ذلك محجوب عن الخلق إلا من شاء الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقوله جل ذكره‏.‏

سنعذبهم مرتين‏)‏ وروى الطبري وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط أيضا من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس قال ‏"‏ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فقال‏:‏ اخرج يا فلان فإنك منافق ‏"‏ فذكر الحديث، وفيه ‏"‏ ففضح الله المنافقين ‏"‏ فهذا العذاب الأول، والعذاب الثاني عذاب القبر‏.‏

وريا أيضا من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة نحوه، ومن طريق محمد بن ثور عن معمر عن الحسن ‏"‏ سنعذبهم مرتين‏:‏ عذاب الدنيا وعذاب القبر ‏"‏ وعن محمد بن إسحاق قال ‏"‏ بلغني ‏"‏ فذكر نحوه‏.‏

وقال الطبري بعد أن ذكر اختلافا عن غير هؤلاء‏:‏ والأغلب أن إحدى المرتين عذاب القبر، والأخرى تحتمل أحد ما تقدم ذكره من الجوع أو السبي أو القتل أو الإذلال أو غير ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقوله تعالى ‏(‏وحاق بآل فرعون‏)‏ الآية‏)‏ روى الطبري من طريق الثوري عن أبي قيس عن هزيل بن شرحبيل قال‏:‏ أرواح آل فرعون في طيور سود تغدو وتروح على النار فذلك عرضها‏.‏

ووصله ابن أبي حاتم من طريق ليث عن أبي قيس فذكر عبد الله بن مسعود فيه، وليث ضعيف، وسيأتي بعد بابين في الكلام على حديث ابن عمر بيان أن هذا العرض يكون في الدنيا قبل يوم القيامة‏.‏

قال القرطبي‏:‏ الجمهور على أن هذا العرض يكون في البرزخ، وهو حجة في تثبيت عذاب القبر‏.‏

وقال غيره‏:‏ وقع ذكر عذاب الدارين في هذه الآية مفسرا مبينا، لكنه حجة على من أنكر عذاب القبر مطلقا لا على من خصه بالكفار‏.‏

واستدل بها على أن الأرواح باقية بعد فراق الأجساد، وهو قول أهل السنة كما سيأتي‏.‏

واحتج بالآية الأولى على أن النفس والروح شيء واحد لقوله تعالى ‏(‏أخرجوا أنفسكم‏)‏ والمراد الأرواح، وهي مسألة مشهورة فيها أقوال كثيرة وستأتي الإشارة إلى شيء منها في التفسير عند قوله تعالى ‏(‏ويسألونك عن الروح‏)‏ الآية‏.‏

ثم أورد المصنف في الباب ستة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا أُقْعِدَ الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا وَزَادَ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ

الشرح‏:‏

حديث البراء في قوله تعالى ‏(‏يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت‏)‏ وقد أورد المصنف في التفسير عن أبي الوليد الطيالسي عن شعبة، وصرح فيه بالإخبار بين شعبة وعلقمة، وبالسماع بين علقمة وسعد بن عبيدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا أقعد المؤمن في قبره أتي ثم شهد‏)‏ في رواية الحموي والمستملي ‏"‏ ثم يشهد ‏"‏ هكذا ساقه المصنف بهذا اللفظ، وقد أخرجه الإسماعيلي عن أبي خليفة عن حفص بن عمر شيخ البخاري فيه بلفظ أبين من لفظه قال ‏"‏ أن المؤمن إذا شهد أن لا إله إلا الله وعرف محمدا في قبره فذلك قوله إلخ ‏"‏ وأخرجه ابن مردويه من هذا الوجه وغيره بلفظ ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عذاب القبر فقال‏:‏ إن المسلم إذا شهد أن لا إله إلا الله وعرف أن محمدا رسول الله ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله في الطريق الثانية ‏(‏بهذا وزاد ‏(‏يثبت الله الذين آمنوا‏)‏ نزلت في عذاب القبر‏)‏ يوهم أن لفظ غندر كلفظ حفص وزيادة، وليس كذلك، وإنما هو بالمعنى، فقد أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه، والقدر الذي ذكره هو أول الحديث، وبقيته عندهم ‏"‏ يقال له من ربك‏؟‏ فيقول‏:‏ ربي الله ونبيي محمد‏"‏، والقدر المذكور أيضا أخرجه مسلم والنسائي من طريق خيثمة عن البراء، وقد اختصر سعد وخيثمة هذا الحديث جدا، لكن أخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن خيثمة فزاد فيه ‏"‏ إن كان صالحا وفق، وإن كان لا خير فيه وجد أبله ‏"‏ وفيه اختصار أيضا وقد رواه زاذان أبو عمر عن البراء مطولا مبينا أخرجه أصحاب السنن وصححه أبو عوانة وغيره وفيه من الزيادة في أوله ‏"‏ استعيذوا بالله من عذاب القبر ‏"‏ وفيه ‏"‏ فترد روحه في جسده ‏"‏ وفيه ‏"‏ فيأتيه ملكان فيجلسان فيقولان له‏:‏ من ربك‏؟‏ فيقول‏:‏ ربي الله‏.‏

فيقولان له‏:‏ ما دينك‏؟‏ فيقول‏:‏ ديني الإسلام‏.‏

فيقولان له‏.‏

ما هذا الرجل الذي بعث فيكم‏؟‏ فيقول‏:‏ هو رسول الله‏.‏

فيقولان له‏:‏ وما يدريك‏؟‏ فيقول‏:‏ قرأت القرآن كتاب الله فآمنت به وصدقت‏.‏

فذلك قوله تعالى ‏(‏يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت‏)‏ ‏"‏ وفيه ‏"‏ وأن الكافر تعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له‏:‏ من ربك‏؟‏ فيقول هاه هاه لا أدري ‏"‏ الحديث‏.‏

وسيأتي نحو هذا في حديث أنس سادس أحاديث الباب، ويأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

قال الكرماني‏:‏ ليس في الآية ذكر عذاب القبر، فلعله سمى أحوال العبد في قبره عذاب القبر تغليبا لفتنة الكافر على فتنة المؤمن لأجل التخويف، ولأن القبر مقام الهول والوحشة، ولأن ملاقاة الملائكة مما يهاب منه ابن آدم في العادة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ حَدَّثَنِي نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ قَالَ اطَّلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْقَلِيبِ فَقَالَ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَقِيلَ لَهُ تَدْعُو أَمْوَاتًا فَقَالَ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لَا يُجِيبُونَ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر في قصة أصحاب القليب قليب بدر وفيه قوله صلى الله عليه وسلم ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ‏"‏ أورده هنا مختصرا، وسيأتي مطولا في المغازي‏.‏

وصالح المذكور في الإسناد هو ابن كيسان‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الْآنَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى

الشرح‏:‏

حديث عائشة قالت ‏"‏ إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم إنهم ليعلمون الآن ما أن كنت أقول لهم حق ‏"‏ وهذا مصير من عائشة إلى رد رواية بن عمر المذكورة‏.‏

وقد خالفها الجمهور في ذلك وقبلوا حديث ابن عمر لموافقة من رواه غيره عليه‏.‏

وأما استدلالها بقوله تعالى ‏(‏إنك لا تسمع الموتى‏)‏ فقالوا معناها لا تسمعهم سماعا ينفعهم، أو لا تسمعهم إلا أن يشاء الله‏.‏

وقال السهيلي‏:‏ عائشة لم تحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم فغيرها ممن حضر أحفظ للفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قالوا له ‏"‏ يا رسول الله أتخاطب قوما قد جيفوا‏؟‏ فقال‏:‏ ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ‏"‏ قال‏:‏ وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحال عالمين جاز أن يكونوا سامعين إما بآذان رءوسهم كما هو قول الجمهور، أو بآذان الروح على رأي من يوجه السؤال إلى الروح من غير رجوع إلى الجسد‏.‏

قال‏:‏ وأما الآية فإنها كقوله تعالى ‏(‏أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي‏)‏ أي إن الله هو الذي يسمع ويهدي انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ إنها لم تحضر صحيح، لكن لا يقدح ذلك في روايتها لأنه مرسل صحابي وهو محمول على أنها سمعت ذلك ممن حضره أو من النبي صلى الله عليه وسلم بعد، ولو كان ذلك قادحا في روايتها لقدح في رواية ابن عمر فإنه لم يحضر أيضا، ولا مانع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال اللفظين معا فإنه لا تعارض بينهما‏.‏

وقال ابن التين‏.‏

لا معارضة بين حديث ابن عمر والآية لأن الموتى لا يسمعون بلا شك، لكن إذا أراد الله إسماع ما ليس من شأنه السماع لم يمتنع كقوله تعالى ‏(‏إنا عرضنا الأمانة‏)‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏(‏فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها‏)‏ الآية‏.‏

وسيأتي في المغازي قول قتادة‏:‏ إن الله أحياهم حتى سمعوا كلام نبيه توبيخا ونقمة انتهى‏.‏

وقد أخذ ابن جرير وجماعة من الكرامية من هذه القصة أن السؤال في القبر يقع على البدن فقط، وأن الله يخلق فيه إدراكا بحيث يسمع ويعلم ويلذ ويألم‏.‏

وذهب ابن حزم وابن هبيرة إلى أن السؤال يقع على الروح فقط من غير عود إلى الجسد، وخالفهم الجمهور فقالوا‏:‏ تعاد الروح إلى الجسد أو بعضه كما ثبت في الحديث، ولو كان على الروح فقط لم يكن للبدن بذلك اختصاص، ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تتفرق أجزاؤه، لأن الله قادر أن يعيد الحياة إلى جزء من الجسد ويقع عليه السؤال، كما هو قادر على أن يجمع أجزاءه‏.‏

والحامل للقائلين بأن السؤال يقع على الروح فقط أن الميت قد يشاهد في قبره حال المسألة لا أثر فيه من إقعاد ولا غيره، ولا ضيق في قبره ولا سعة، وكذلك غير المقبور كالمصلوب‏.‏

وجوابهم أن ذلك غير ممتنع في القدرة، بل له نظير في العادة وهو النائم فإنه يجد لذة وألما لا يدركه جليسه، بل اليقظان قد يدرك ألما أو لذة لما يسمعه أو يفكر فيه ولا يدرك ذلك جليسه، وإنما أتى الغلط من قياس الغائب على الشاهد وأحوال ما بعد الموت على ما قبله، والظاهر أن الله تعالى صرف أبصار العباد وأسماعهم عن مشاهدة ذلك وستره عنهم إبقاء عليهم لئلا يتدافنوا، وليست للجوارح الدنيوية قدرة على إدراك أمور الملكوت إلا من شاء الله‏.‏

وقد ثبتت الأحاديث بما ذهب إليه الجمهور كقوله ‏"‏ أنه ليسمع خفق نعالهم ‏"‏ وقوله ‏"‏ تختلف أضلاعه لضمة القبر ‏"‏ وقوله ‏"‏ يسمع صوته إذا ضربه بالمطراق ‏"‏ وقوله ‏"‏ يضرب بين أذنيه ‏"‏ وقوله ‏"‏ فيقعدانه ‏"‏ وكل ذلك من صفات الأجساد‏.‏

وذهب أبو الهذيل ومن تبعه إلى أن الميت لا يشعر بالتعذيب ولا بغيره إلا بين النفختين، قالوا وحاله كحال النائم والمغشي عليه لا يحس بالضرب ولا بغيره إلا بعد الإفاقة، والأحاديث الثابتة في السؤال حالة تولي أصحاب الميت عنه ترد عليهم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وجه إدخال حديث ابن عمر وما عارضه من حديث عائشة في ترجمة عذاب القبر أنه لما ثبت من سماع أهل القليب وتوبيخه لهم دل إدراكهم الكلام بحاسة السمع على جواز إدراكهم ألم العذاب ببقية الحواس بل بالذات إذ الجامع بينهما وبين بقية الأحاديث أن المصنف أشار إلى طريق من طرق الجمع بين حديثي ابن عمر وعائشة بحمل حديث ابن عمر على أن مخاطبة أهل القليب وقعت وقت المسألة وحينئذ كانت الروح قد أعيدت إلى الجسد، وقد تبين من الأحاديث الأخرى أن الكافر المسئول يعذب، وأما إنكار عائشة فمحمول على غير وقت المسألة فيتفق الخبران‏.‏

ويظهر من هذا التقرير وجه إدخال حديث ابن عمر في هذه الترجمة والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ سَمِعْتُ الْأَشْعَثَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ فَقَالَتْ لَهَا أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَقَالَ نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ صَلَّى صَلَاةً إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ زَادَ غُنْدَرٌ عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سمعت الأشعث‏)‏ هو ابن أبي الشعثاء سليم بن الأسود المحاربي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر‏)‏ وقع في رواية أبي وائل عن مسروق عند المصنف في الدعوات ‏"‏ دخلت عجوزان من عجز يهود المدينة فقالتا‏:‏ إن أهل القبور يعذبون في قبورهم ‏"‏ وهو محمول على أن إحداهما تكلمت وأقرتها الأخرى على ذلك فنسبت القول إليهما مجازا، والإفراد يحمل على المتكلمة‏.‏

ولم أقف على اسم واحدة منهما‏.‏

وزاد في رواية أبي وائل ‏"‏ فكذبتهما ‏"‏ ووقع عند مسلم من طريق ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت ‏"‏ دخلت علي امرأة من اليهود وهي تقول‏:‏ هل شعرت أنكم تفتنون في القبور‏.‏

قال‏:‏ فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ إنما يفتن يهود‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل شعرت أنه أوحي إلى أنكم تفتنون في القبور‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من عذاب القبر ‏"‏ وبين هاتين الروايتين مخالفة، لأن في هذه أنه صلى الله عليه وسلم أنكر على اليهودية، وفي الأولى أنه أقرها‏.‏

قال النووي تبعا للطحاوي وغيره‏:‏ هما قصتان، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم قول اليهودية في القصة الأولى، ثم أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ولم يعلم عائشة، فجاءت اليهودية مرة فذكرت لها ذلك فأنكرت عليها مستندة إلى الإنكار الأول، فأعلمها النبي صلى الله عليه وسلم بأن الوحي نزل بإثباته انتهى‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ سرا فلما رأى استغراب عائشة حين سمعت ذلك من اليهودية أعلن به انتهى‏.‏

وكأنه لم يقف على رواية الزهري عن عروة التي ذكرناها عن صحيح مسلم، وقد تقدم في ‏"‏ باب التعوذ من عذاب القبر ‏"‏ في الكسوف من طريق عمرة عن عائشة ‏"‏ أن يهودية جاءت تسألها فقالت لها‏:‏ أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم أتعذب الناس في قبورهم‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عائذا بالله من ذلك‏.‏

ثم ركب ذات غداة مركبا فخسفت الشمس ‏"‏ فذكر الحديث، وفي آخره ‏"‏ ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر ‏"‏ وفي هذه موافقة لرواية الزهري وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن علم بذلك‏.‏

وأصرح منه ما رواه أحمد بإسناد على شرط البخاري عن سعيد بن عمرو بن سعيد الأموي عن عائشة ‏"‏ أن يهودية كانت تخدمها، فلا تصنع عائشة إليها شيئا من المعروف إلا قالت لها اليهودية‏:‏ وقاك الله عذاب القبر‏.‏

قالت‏:‏ فقلت يا رسول الله هل للقبر عذاب‏؟‏ قال‏:‏ كذبت يهود، لا عذاب دون يوم القيامة‏.‏

ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث، فخرج ذات يوم نصف النهار وهو ينادي بأعلى صوته‏:‏ أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر، فإن عذاب القبر حق ‏"‏ وفي هذا كله أنه صلى الله عليه وسلم إنما علم بحكم عذاب القير إذ هو بالمدينة في آخر الأمر كما تقدم تاريخ صلاة الكسوف في موضعه‏.‏

وقد استشكل ذلك بأن الآية المتقدمة مكية وهي قوله تعالى ‏(‏يثبت الله الذين آمنوا‏)‏ وكذلك الآية الأخرى المتقدمة وهي قوله تعالى ‏(‏النار يعرضون عليها غدوا وعشيا‏)‏ والجواب أن عذاب القبر إنما يؤخذ من الأولى بطريق المفهوم من حق من لم يتصف بالإيمان، وكذلك بالمنطوق في الأخرى في حق آل فرعون وإن التحق بهم من كان له حكمهم من الكفار، فالذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو وقوع عذاب القبر على الموحدين، ثم أعلم صلى الله عليه وسلم أن ذلك قد يقع على من يشاء الله منهم فجزم به وحذر منه وبالغ في الاستعاذة منه تعليما لأمته وإرشادا، فانتفى التعارض بحمد الله تعالى‏.‏

وفيه دلالة على أن عذاب القبر ليس بخاص بهذه الأمة بخلاف المسألة ففيها اختلاف سيأتي ذكره آخر الباب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال نعم عذاب القبر‏)‏ كذا للأكثر، زاد في رواية الحموي والمستملي ‏"‏ حق ‏"‏ وليس بجيد لأن المصنف قال عقب هذه الطريق‏:‏ زاد غندر ‏"‏ عذاب القبر حق ‏"‏ فتبين أن لفظ ‏"‏ حق ‏"‏ ليست في رواية عبدان عن أبيه عن شعبة، وأنها ثابتة في رواية غندر عن شعبة وهو كذلك‏.‏

وقد أخرج طريق غندر النسائي والإسماعيلي كذلك وكذلك أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع قوله ‏"‏ زاد غندر إلخ ‏"‏ في رواية أبي ذر وحده، ووقع ذلك في بعض النسخ عقب حديث أسماء بنت أبي بكر وهو غلط‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَقُولُ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا فَذَكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ الَّتِي يَفْتَتِنُ فِيهَا الْمَرْءُ فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ ضَجَّ الْمُسْلِمُونَ ضَجَّةً

الشرح‏:‏

أورده مختصرا جدا بلفظ ‏"‏ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فذكر فتنة القبر التي يفتتن فيها المرء، فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة ‏"‏ وهو مختصر، وقد ساقه النسائي والإسماعيلي من الوجه الذي أخرجه منه البخاري فزاد بعد قوله ضجة ‏"‏ حالت بيني وبين أن أفهم آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سكت ضجيجهم قلت لرجل قريب مني‏:‏ أي بارك الله فيك، ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر كلامه‏؟‏ قال قال‏:‏ قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريبا من فتنة الدجال ‏"‏ انتهى‏.‏

وقد تقدم هذا الحديث في كتاب العلم وفي الكسوف من طريق فاطمة بنت المنذر عن أسماء بتمامه، وفيه من الزيادة ‏"‏ يؤتى أحدكم فيقال له‏:‏ ما علمك بهذا الرجل ‏"‏ الحديث، فلم يبين فيه ما بين في هذه الرواية من تفهيم الرجل المذكور لأسماء فيه‏.‏

وأخرجه في كتاب الجمعة من طريق فاطمة أيضا وفيه أنه ‏"‏ لما قال أما بعد لغط نسوة من الأنصار، وأنها ذهبت لتسكتهن فاستفهمت عائشة عما قال ‏"‏ فيجمع بين مختلف هذه الروايات أنها احتاجت إلى الاستفهام مرتين، وأنه لما حدثت فاطمة لم تبين لها الاستفهام الثاني‏.‏

ولم أقف على اسم الرجل الذي استفهمت منه عن ذلك إلى الآن‏.‏

ولأحمد من طريق محمد بن المنكدر عن أسماء مرفوعا ‏"‏ إذا دخل الإنسان قبره فإن كان مؤمنا احتف به عمله فيأتيه الملك فترده الصلاة والصيام، فيناديه الملك‏:‏ اجلس، فيجلس فيقول‏:‏ ما تقول في هذا الرجل محمد‏؟‏ قال‏:‏ أشهد أنه رسول الله‏.‏

قال‏:‏ على ذلك عشت وعليه مت وعليه تبعث ‏"‏ الحديث‏.‏

وسيأتي الكلام عليه مستوفى في الحديث الذي يليه‏.‏

وقد تقدم الكلام على بقية فوائد حديث أسماء في كتاب العلم، ووقع في بعض النسخ هنا ‏"‏ زاد غندر عذاب القبر ‏"‏ وهو غلط لأن هذا إنما هو في آخر حديث عائشة الذي قبله، وأما حديث أسماء فلا رواية لغندر فيه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا قَالَ قَتَادَةُ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالُ لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ

الشرح‏:‏

حديث أنس قد تقدم بهذا الإسناد في ‏"‏ باب خفق النعال ‏"‏ وعبد الأعلى المذكور فيه هو ابن عبد الأعلى السامي بالمهملة البصري، وسعيد هو ابن أبي عروبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن العبد إذا وضع في قبره‏)‏ كذا وقع عنده مختصرا، وأوله عند أبي داود من طريق عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد بهذا السند ‏"‏ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دخل نخلا لبني النجار، فسمع صوتا ففزع فقال‏:‏ من أصحاب هذه القبور‏؟‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله ناس ماتوا في الجاهلية‏.‏

فقال‏:‏ تعوذوا بالله من عذاب القبر ومن فتنة الدجال‏.‏

قالوا‏:‏ وما ذاك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ إن العبد ‏"‏ فذكر الحديث، فأفاد بيان سبب الحديث قوله‏:‏ ‏(‏وإنه ليسمع قرع نعالهم‏)‏ زاد مسلم ‏"‏ إذا انصرفوا ‏"‏ وفي رواية له ‏"‏ يأتيه ملكان ‏"‏ زاد ابن حبان والترمذي من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة ‏"‏ أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير ‏"‏ وفي رواية ابن حبان ‏"‏ يقال لهما منكر ونكير ‏"‏ زاد الطبراني في الأوسط من طريق أخرى عن أبي هريرة ‏"‏ أعينهما مثل قدور النحاس، وأنيابهما مثل صياصي البقر، وأصواتهما مثل الرعد ‏"‏ ونحوه لعبد الرزاق من مرسل عمرو بن دينار وزاد ‏"‏ يحفران بأنيابهما ويطآن في أشعارهما، معهما مرزبة لو اجتمع عليها أهل منى لم يقلوها ‏"‏ وأورد ابن الجوزي في ‏"‏ الموضوعات ‏"‏ حديثا فيه ‏"‏ أن فيهم رومان وهو كبيرهم ‏"‏ وذكر بعض الفقهاء أن اسم اللذين يسألان المذنب منكر ونكير، وأن اسم اللذين يسألان المطيع مبشر وبشير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيقعدانه‏)‏ زاد في حديث البراء فتعاد روحه في جسده كما تقدم في أول أحاديث الباب، وزاد ابن حبان من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة ‏"‏ فإذا كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه، والزكاة عن يمينه، والصوم عن شماله، وفعل المعروف من قبل رجليه‏.‏

فيقال له‏:‏ اجلس، فيجلس وقد مثلت له الشمس عند الغروب ‏"‏ زاد ابن ماجه من حديث جابر ‏"‏ فيجلس فيمسح عينيه ويقول‏:‏ دعوني أصلي‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيقولان‏:‏ ما كنت تقول في هذا الرجل محمد‏)‏ زاد أبو داود في أوله ‏"‏ ما كنت تعبد‏؟‏ فإن هداه الله قال‏:‏ كنت أعبد الله‏.‏

فيقال له‏:‏ ما كنت تقول في هذا الرجل ‏"‏ ولأحمد من حديث عائشة ‏"‏ ما هذا الرجل الذي كان فيكم ‏"‏ وله من حديث أبي سعيد ‏"‏ فإن كان مؤمنا قال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله‏.‏

فيقال له‏:‏ صدقت ‏"‏ زاد أبو داود ‏"‏ فلا يسأل عن شيء غيرهما ‏"‏ وفي حديث أسماء بنت أبي بكر المتقدم في العلم والطهارة وغيرهما ‏"‏ فأما المؤمن أو الموقن فيقول‏:‏ محمد رسول الله، جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا وآمنا واتبعنا‏.‏

فيقال له‏:‏ نم صالحا ‏"‏ وفي حديث أبي سعيد عند سعيد بن منصور ‏"‏ فيقال له‏:‏ نم نومة العروس، فيكون في أحلى نومة نامها أحد حتى يبعث ‏"‏ وللترمذي في حديث أبي هريرة ‏"‏ ويقال له‏:‏ نم، فينام نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك ‏"‏ ولابن حبان وابن ماجه من حديث أبي هريرة وأحمد من حديث عائشة ‏"‏ ويقال له‏:‏ على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيقال له‏:‏ انظر إلى مقعدك من النار‏)‏ في رواية أبي داود ‏"‏ فيقال له‏:‏ هذا بيتك كان في النار، ولكن الله عز وجل عصمك ورحمك فأبدلك الله به بيتا في الجنة‏.‏

فيقول‏:‏ دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي، فيقال له‏:‏ اسكت ‏"‏ وفي حديث أبي سعيد عند أحمد ‏"‏ كان هذا منزلك لو كفرت بربك ‏"‏ ولابن ماجه من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح ‏"‏ فيقال له‏:‏ هل رأيت الله‏؟‏ فيقول ما ينبغي لأحد أن يرى الله، فتفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضا فيقال له‏:‏ انظر إلى ما وقاك الله ‏"‏ وسيأتي في أواخر الرقاق من وجه آخر عن أبي هريرة ‏"‏ لا يدخل أحد الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا ‏"‏ وذكر عكسه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال قتادة‏:‏ وذكر لنا أنه يفسح له في قبره‏)‏ زاد مسلم من طريق شيبان عن قتادة ‏"‏ سبعون ذراعا، ويملأ خضرا إلى يوم يبعثون ‏"‏ ولم أقف على هذه الزيادة موصولة من حديث قتادة‏.‏

وفي حديث أبي سعيد من وجه آخر عند أحمد ‏"‏ ويفسح له في قبره ‏"‏ وللترمذي وابن حبان من حديث أبي هريرة ‏"‏ فيفسح له في قبره سبعين ذراعا ‏"‏ زاد ابن حبان ‏"‏ في سبعين ذراعا‏"‏‏.‏

وله من وجه آخر عن أبي هريرة ‏"‏ ويرحب له في قبره سبعون ذراعا، وينور له كالقمر ليلة البدر ‏"‏ وفي حديث البراء الطويل ‏"‏ فينادي مناد من السماء‏:‏ إن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وافتحوا له بابا في الجنة وألبسوه من الجنة‏.‏

قال فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له فيها مد بصره ‏"‏ زاد ابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة ‏"‏ فيزداد غبطة وسرورا، فيعاد الجلد إلى ما بدأ منه وتجعل روحه في نسم طائر يعلق في شجر الجنة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأما المنافق والكافر‏)‏ كذا في هذه الطريق بواو العطف، وتقدم في ‏"‏ باب خفق النعال ‏"‏ بها ‏"‏ وأما الكافر أو المنافق ‏"‏ بالشك‏.‏

وفي رواية أبي داود ‏"‏ وأن الكافر إذا وضع ‏"‏ وكذا لابن حبان من حديث أبي هريرة، وكذا في حديث البراء الطويل، وفي حديث أبي سعيد عند أحمد ‏"‏ وإن كان كافرا أو منافقا ‏"‏ بالشك، وله في حديث أسماء ‏"‏ فإن كان فاجرا أو كافرا ‏"‏ وفي الصحيحين من حديثها ‏"‏ وأما المنافق أو المرتاب ‏"‏ وفي حديث جابر عند عبد الرزاق وحديث أبي هريرة عند الترمذي ‏"‏ وأما المنافق ‏"‏ وفي حديث عائشة عند أحمد وأبي هريرة عند ابن ماجه ‏"‏ وأما الرجل السوء ‏"‏ وللطبراني من حديث أبي هريرة ‏"‏ وإن كان من أهل الشك ‏"‏ فاختلفت هذه الروايات لفظا وهي مجتمعة على أن كلا من الكافر والمنافق يسأل، ففيه تعقب على من زعم أن السؤال إنما يقع على من يدعي الإيمان إن محقا وإن مبطلا، ومستندهم في ذلك ما رواه عبد الرزاق من طريق عبيد بن عمير أحد كبار التابعين قال ‏"‏ إنما يفتن رجلان‏:‏ مؤمن ومنافق، وأما الكافر فلا يسأل عن محمد ولا يعرفه ‏"‏ وهذا موقوف‏.‏

والأحاديث الناصة على أن الكافر يسأل مرفوعة مع كثرة طرقها الصحيحة فهي أولى بالقبول، وجزم الترمذي الحكيم بأن الكافر يسأل، واختلف في الطفل غير المميز فحزم القرطبي في التذكرة بأنه يسأل، وهو منقول عن الحنفية، وجزم غير واحد من الشافعية بأنه لا يسأل، ومن ثم قالوا‏:‏ لا يستحب أن يلقن‏.‏

واختلف أيضا في النبي هل يسأل، وأما الملك فلا أعرف أحدا ذكره، والذي يظهر أنه لا يسأل لأن السؤال يختص بمن شأنه أن يفتن، وقد مال ابن عبد البر إلى الأول وقال‏.‏

الآثار تدل على أن الفتنة لمن كان منسوبا إلى أهل القبلة، وأما الكافر الجاحد فلا يسأل عن دينه‏.‏

وتعقبه ابن القيم في ‏"‏ كتاب الروح ‏"‏ وقال‏:‏ في الكتاب والسنة دليل على أن السؤال للكافر والمسلم، قال الله تعالى ‏(‏يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين‏)‏ وفي حديث أنس في البخاري ‏"‏ وأما المنافق والكافر ‏"‏ بواو العطف، وفي حديث أبي سعيد ‏"‏ فإن كان مؤمنا - فذكره وفيه - وإن كان كافرا ‏"‏ وفي حديث البراء ‏"‏ وإن الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا - فذكره وفيه - فيأتيه منكر ونكير ‏"‏ الحديث أخرجه أحمد هكذا، قال‏:‏ وأما قول أبي عمر‏:‏ فأما الكافر الجاحد فليس ممن يسأل عن دينه، فجوابه أنه نفي بلا دليل‏.‏

بل في الكتاب العزيز الدلالة على أن الكافر يسأل عن دينه، قال الله تعالى ‏(‏فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين‏)‏ وقال تعالى ‏(‏فوربك لنسألنهم أجمعين‏)‏ لكن للنافي أن يقول إن هذا السؤال يكون يوم القيامة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيقول لا أدري‏)‏ في رواية أبي داود المذكورة ‏"‏ وإن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك فينتهره فيقول له‏:‏ ما كنت تعبد ‏"‏ وفي أكثر الأحاديث ‏"‏ فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل ‏"‏ وفي حديث البراء ‏"‏ فيقولان له من ربك‏؟‏ فيقول‏:‏ هاه هاه لا أدري، فيقولان له‏:‏ ما دينك‏؟‏ فيقول‏:‏ هاه هاه لا أدري‏.‏

فيقولان له‏:‏ ما هذا الرجل الذي بعث فيكم‏؟‏ فيقول‏:‏ هاه هاه لا أدري ‏"‏ وهو أتم الأحاديث سياقا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كنت أقول ما يقول الناس‏)‏ في حديث أسماء ‏"‏ سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ‏"‏ وكذا في أكثر الأحاديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا دريت ولا تليت‏)‏ كذا في أكثر الروايات بمثناة مفتوحة بعدها لام مفتوحة وتحتانية ساكنة، قال ثعلب‏:‏ قوله ‏"‏ تليت ‏"‏ أصله تلوت، أي لا فهمت ولا قرأت القرآن، والمعنى لا دريت ولا اتبعت من يدري، وإنما قاله بالياء لمؤاخاة دريت‏.‏

وقال ابن السكيت‏:‏ قوله ‏"‏ تليت ‏"‏ إتباع ولا معنى لها، وقيل صوابه ولا ائتليت بزيادة همزتين قيل المثناة بوزن افتعلت من قولهم ما ألوت أي ما استطعت، حكي ذلك عن الأصمعي، وبه جزم الخطابي‏.‏

وقال الفراء‏:‏ أي قصرت كأنه قيل له لا دريت ولا قصرت في طلب الدارية ثم أنت لا تدري‏.‏

وقال الأزهري‏.‏

الألو يكون بمعنى الجهد وبمعنى التقصير وبمعنى الاستطاعة‏.‏

وحكى ابن قتيبة عن يونس بن حبيب أن صواب الرواية ‏"‏ لا دريت ولا أتليت ‏"‏ بزيادة ألف وتسكين المثناة كأنه يدعو عليه بأن لا يكون له من يتبعه، وهو من الإتلاء يقال ما أتلت إبله أي لم تلد أولادا يتبعونها‏.‏

وقال‏:‏ قول الأصمعي أشبه بالمعنى، أي لا دريت ولا استطعت أن تدري‏.‏

ووقع عند أحمد من حديث أبي سعيد ‏"‏ لا دريت ولا اهتديت ‏"‏ وفي مرسل عبيد بن عمير عند عبد الرزاق ‏"‏ لا دريت ولا أفلحت‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بمطارق من حديد ضربة‏)‏ تقدم في ‏"‏ باب خفق النعال ‏"‏ بلفظ ‏"‏ بمطرقة ‏"‏ على الإفراد، وكذا هو في معظم الأحاديث‏.‏

قال الكرماني‏:‏ الجمع مؤذن بأن كل جزء من أجزاء تلك المطرقة مطرقة برأسها مبالغة ا ه‏.‏

وفي حديث البراء ‏"‏ لو ضرب بها جبل لصار ترابا ‏"‏ وفي حديث أسماء ‏"‏ ويسلط عليه دابة في قبره معها سوط ثمرته جمرة مثل غرب البعير تضربه ما شاء الله صماء لا تسمع صوته فترحمه ‏"‏ وزاد في أحاديث أبي سعيد وأبي هريرة وعائشة التي أشرنا إليها ‏"‏ ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له‏:‏ هذا منزلك لو آمنت بربك، فأما إذ كفرت فإن الله أبدلك هذا، ويفتح له باب إلى النار ‏"‏ زاد في حديث أبي هريرة ‏"‏ فيزداد حسرة وثبورا، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه‏"‏، في حديث البراء ‏"‏ فينادي مناد من السماء‏:‏ أفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من يليه‏)‏ قال المهلب‏:‏ المراد الملائكة الذين يلون فتنته، كذا قال، ولا وجه لتخصيصه بالملائكة فقد ثبت أن البهائم تسمعه‏.‏

وفي حديث البراء ‏"‏ يسمعه من بين المشرق والمغرب ‏"‏ وفي حديث أبي سعيد عند أحمد ‏"‏ يسمعه خلق الله كلهم غير الثقلين ‏"‏ وهذا يدخل فيه الحيوان والجماد، لكن يمكن أن يخص منه الجماد‏.‏

ويؤيده أن في حديث أبي هريرة عند البزار ‏"‏ يسمعه كل دابة إلا الثقلين ‏"‏ والمراد بالثقلين الإنس والجن، قيل لهم ذلك لأنهم كالثقل على وجه الأرض‏.‏

قال المهلب‏:‏ الحكمة في أن الله يسمع الجن قول الميت قدموني ولا يسمعهم صوته إذا عذب بأن كلامه قبل الدفن متعلق بأحكام الدنيا وصوته إذا عذب في القبر متعلق بأحكام الآخرة، وقد أخفى الله على المكلفين أحوال الآخرة إلا من شاء الله إبقاء عليهم كما تقدم‏.‏

وقد جاء في عذاب القبر غير هذه الأحاديث‏:‏ منها عن أبي هريرة وابن عباس وأبي أيوب وسعد وزيد بن أرقم وأم خالد في الصحيحين أو أحدهما، وعن جابر عند ابن ماجه، وأبي سعيد عند ابن مردويه، وعمر وعبد الرحمن بن حسنة وعبد الله بن عمرو عند أبي داود، وابن مسعود عند الطحاوي، وأبي بكرة وأسماء بنت يزيد عند النسائي، وأم مبشر عند ابن أبي شيبة، وعن غيرهم‏.‏

وفي أحاديث الباب من الفوائد‏:‏ إثبات عذاب القبر، وأنه واقع على الكفار ومن شاء الله من الموحدين‏.‏

والمسألة وهل هي واقعة على كل واحد‏؟‏ تقدم تقرير ذلك، وهل تختص بهذه الأمة أم وقعت على الأمم قبلها‏؟‏ ظاهر الأحاديث الأول وبه جزم الحكيم الترمذي وقال‏:‏ كانت الأمم قبل هذه الأمة تأتيهم الرسل فإن أطاعوا فذاك وإن أبوا اعتزلوهم وعوجلوا بالعذاب، فلما أرسل الله محمدا رحمة للعالمين أمسك عنهم العذاب، وقبل الإسلام ممن أظهره سواء أسر الكفر أو لا، فلما ماتوا قيض الله لهم فتاني القبر ليستخرج سرهم بالسؤال وليميز الله الخبيث من الطيب ويثبت الله الذين آمنوا ويضل الله الظالمين انتهى‏.‏

ويؤيده حديث زيد بن ثابت مرفوعا ‏"‏ أن هذه الأمة تبتلى في قبورها ‏"‏ الحديث أخرجه مسلم، ومثله عند أحمد عن أبي سعيد في أثناء حديث، ويؤيده أيضا قول الملكين ‏"‏ ما تقول في هذا الرجل محمد ‏"‏ وحديث عائشة عند أحمد أيضا بلفظ ‏"‏ وأما فتنة القبر فبي تفتنون وعني تسألون ‏"‏ وجنح ابن القيم إلى الثاني وقال‏:‏ ليس في الأحاديث ما ينفي المسألة عمن تقدم من الأمم، وإنما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بكيفية امتحانهم في القبور لا أنه نفى ذلك عن غيرهم، قال‏:‏ والذي يظهر أن كل نبي مع أمته كذلك، فتعذب كفارهم في قبورهم بعد سؤالهم وإقامة الحجة عليهم كما يعذبون في الآخرة بعد السؤال وإقامة الحجة‏.‏

وحكي في مسألة الأطفال احتمالا، والظاهر أن ذلك لا يمتنع في حق المميز دون غيره‏.‏

وفيه ذم التقليد في الاعتقادات لمعاقبة من قال‏:‏ كنت أسمع الناس يقولون شيئا فقلته، وفيه أن الميت يحيا في قبره للمسألة خلافا لمن رده واحتج بقوله تعالى ‏(‏قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين‏)‏ الآية قال‏:‏ فلو كان يحيا في قبره للزم أن يحيا ثلاث مرات ويموت ثلاثا وهو خلاف النص، والجواب بأن المراد بالحياة في القبر للمسألة ليست الحياة المستقرة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبيره وتصرفه وتحتاج إلى ما يحتاج إليه الأحياء، بل هي مجرد إعادة لفائدة الامتحان الذي وردت به الأحاديث الصحيحة، فهي إعادة عارضة، كما حيي خلق لكثير من الأنبياء لمسألتهم لهم عن أشياء ثم عادوا موتى‏.‏

وفي حديث عائشة جواز التحديث عن أهل الكتاب بما وافق الحق‏.‏

*3*باب التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب التعوذ من عذاب القبر‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ أحاديث هذا الباب تدخل في الباب الذي قبله، وإنما أفردها عنها لأن الباب الأول معقود لثبوته ردا على من أنكره‏.‏

والثاني لبيان ما ينبغي اعتماده في مدة الحياة من التوسل إلى الله بالنجاة منه والابتهال إليه في الصرف عنه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وَجَبَتْ الشَّمْسُ فَسَمِعَ صَوْتًا فَقَالَ يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا وَقَالَ النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَوْنٌ سَمِعْتُ أَبِي سَمِعْتُ الْبَرَاءَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخبرنا يحيي‏)‏ هو ابن سعيد القطان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي أيوب‏)‏ هو الأنصاري‏.‏

وفي هذا الإسناد ثلاثة من الصحابة في نسق أولهم أبو جحيفة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وجبت الشمس‏)‏ أي سقطت، والمراد غروبها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فسمع صوتا‏)‏ قيل يحتمل أن يكون سمع صوت ملائكة العذاب أو صوت اليهود المعذبين أو صوت وقع العذاب‏.‏

قلت‏:‏ وقد وقع عند الطبراني من طريق عبد الجبار بن العباس عن عون بهذا السند مفسرا ولفظه ‏"‏ خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين غربت الشمس ومعي كوز من ماء، فانطلق لحاجته حتى جاء فوضأته فقال‏:‏ أتسمع ما اسمع‏؟‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏

قال‏:‏ أسمع أصوات اليهود يعذبون في قبورهم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يهود تعذب في قبورها‏)‏ هو خبر مبتدأ أي هذه يهود، أو هو مبتدأ خبره محذوف‏.‏

قال الجوهري‏:‏ اليهود قبيلة والأصل اليهوديون فحذفت ياء الإضافة مثل زنج وزنجي ثم عرف على هذا الحد فجمع على قياس شعير وشعيرة ثم عرف الجمع بالألف واللام ولولا ذلك لم يجز دخول الألف واللام لأنه معرفة مؤنث فجرى مجرى القبيلة وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث، وهو موافق لقوله فيما تقدم من حديث عائشة ‏"‏ إنما تعذب اليهود ‏"‏ وإذا ثبت أن اليهود تعذب بيهوديتهم ثبت تعذيب غيرهم من المشركين لأن كفرهم بالشرك أشد من كفر اليهود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال النضر إلخ‏)‏ ساق هذه الطريق لتصريح عون فيها بسماعه له من أبيه وسماع أبيه له من البراء، وقد وصلها الإسماعيلي من طريق أحمد بن منصور عن النضر ولم يسق المتن، وساقه إسحاق بن راهويه في مسنده عن النضر بلفظ ‏"‏ فقال‏:‏ هذه يهود تعذب في قبورها ‏"‏ قال ابن رشد‏:‏ لم يجر للتعوذ من عذاب القبر في هذا الحديث ذكر، فلهذا قال بعض الشارحين‏:‏ إنه من بقية الباب الذي قبله، وإنما أدخله في هذا الباب بعض من نسخ الكتاب ولم يميز، قال‏:‏ ويحتمل أن يكون المصنف أراد أن يعلم بأن حديث أم خالد ثاني أحاديث هذا الباب محمول على أنه صلى الله عليه وسلم نعوذ من عذاب القبر حين سمع أصوات يهود، لما علم من حاله أنه كان يتعوذ ويأمر بالتعوذ مع عدم سماع العذاب فكيف مع سماعه‏.‏

قال‏:‏ وهذا جار على ما عرف من عادة المصنف في الإغماض‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ العادة قاضية بأن كل من سمع مثل ذلك الصوت يتعوذ من مثله‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُعَلًّى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَتْنِي ابْنَةُ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا معلى‏)‏ هو ابن أسد، وبنت خالد اسمها أمة وتكنى أم خالد، وقد أورده المصنف في الدعوات من وجه آخر ‏"‏ عن موسى بن عقبة سمعت أم خالد بنت خالد ولم أسمع أحدا سمع من النبي غيرها ‏"‏ فذكره‏.‏

ووقع في الطبراني من وجه آخر عن موسى بلفظ ‏"‏ استجيروا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو وَيَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو‏)‏ زاد الكشميهني ‏"‏ ويقول ‏"‏ وقد تقدم الكلام على فوائد هذا الحديث في آخر صفة الصلاة قبيل كتاب الجمعة‏.‏